|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  1  / 6 / 2021                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

وجهات في النظر

عطا عباس
(موقع الناس)

منذ سنوات ووتيرة الأحتجاجات الشعبية في مد وجزر . ولكنها لم تنتهي .
وبداهة أن أستمرارها رهن ببقاء الأسباب العميقة والكامنة في وضع عراقي تشكلت ملامحه بعد الاحتلال الامريكي مباشرة في نيسان ٢٠٠٣ .

وبات الجميع يعرف ذلك . بل واصبح الأمر بداهة للمشتغل بالميدان السياسي أو للمواطن اللاهث وراء رغيف خبزه اليومي .

ف "المحاصصة" بتنويعاتها ، والفساد والمحسوبية والنهب وفقدان الخدمات والبطالة والتفاوت الهائل في توزيع الدخل هي أبرز الأسباب المؤدية الى وضع كهذا .

لكن تعامل وأدراك المواطن العراقي ، وطوال اكثر من ١٨ عاما ، لحقيقة الوضع ، لم يكن واحدا .

وذاك أمر طبيعي . فما بين التمني والرجاء أولا ، ثم اليأس والإحباط من القابضين على السلطة وتوجهاتهم وارادتهم في أصلاح الوضع المزري ، كان لابد من زمن لخلق قناعة عامة تمثل جوهرها بعدم التعويل على منظومة الحكم ووعودها وقدرتها حقا على انتشال البلد ومواطنيه من واقع مزر لا يُطاق .

وعلى هذا الطريق شكلت أحتجاجات شباط ٢٠١١ علامة مضيئة أولى بأمكانية أحداث منعطف ما في الوضع السياسي العراقي . لكن الاحتجاجات تلك لم تحدث المرتجى ، لعدم شموليتها وأتساعها ، ناهيك عن غياب الأطار التنظيمي المطلوب لقيادتها .

وشكلت العاصمة بغداد حينها ساحة الصراع الأبرز بين المحتجين والحكومة واجهزتها . اي ان دعم المحافظات العراقية الباقية لم يشكل عامل ضغط هام ومتزامن لخلخلة الوضع بشكل جدي .

وأستمر الحال هكذا بين كر وفر حتى اندلعت انتفاضة تشرين عام ٢٠١٩ .
وجاءت هذه الأخيرة بعد دورتين أنتخابيتين شابهما الكثير من التزوير من جهة والمقاطعة الشعبية من جهةٍ أخرى . لكن المهم هنا ، أن حصيلتهما لم تعمل الا على أنتاج وتدوير ذات المنظومة السياسية وأحزابها المتهمة أصلا بالنهب والعبث بمقدرات البلد وشعبه .

وهنا بالذات ، بات السؤال العام هاما للجميع :
هل هناك جدوى من المشاركة في الانتخابات ، بل ومن التعويل على "عملية سياسية" كانت مخرجاتها لا تتعدى غير الخراب الشامل والخوف من ضياع البلد ووحدته الوطنية .

وقد تفاعل ذلك عميقا مع تذمر وسخط متسع ومتسارع ، خاصة لدى فئات واسعة من الشباب الذين يرزحون عموما تحت وطأة بطالة واسعة وأفق حياتي مسدود تماما .
تلك هي الخلفية السياسية والأجتماعية التي سبقت انتفاضة تشرين ٢٠٢٠ .

ولأن كانت أحتجاجات العام ٢٠١١ قد نجحت في تعرية السلطة الحاكمة تماما ، وأظهرت عجزها المزمن في معالجة المشكلات المتفاقمة ، فأن انتفاضة تشرين قد دفعت الامر بعيدا وعميقا في آن .

فأن كانت أحتجاجات شباط ٢٠١١ ، بل وحتى المرحلة الأولى من أنتفاضة تشرين ٢٠٢٠ ، قد ضمت طيفا سياسيا واسعا من المدنيين ومن التيار الصدري ، فأن التطورات اللاحقة قد دفعت بتجذر حركة الأحتجاج عميقا ، ليبقى ناشطوها المدنيين وحدهم في ساحات الاحتجاج التي عمت مدن العراق هذه المرة . فقد التحق الصدريون تماما الى صف السلطة بعد تسويات سياسية أسفرت عن أستقالة عادل عبد المهدي ومجئ مصطفى الكاظمي الى كرسي الوزارة بتأييد واضح من الصدريين ومقتدى الصدر شخصيا . بل وأخذ الصدريون على عاتقهم تصفية ساحات الأحتجاج وأخلائها من الناشطين الذين تعرضوا الى حملة واسعة من الخطف والتغييب والتصفية الجسدية . وباتت تحالفاتهم السياسية لا تساوي ثمن الورق الذي كتبت عليه.

وبدا الجو مهيئا للتيار الصدري ليعلن على الملأ أنه سيظفر بكرسي رئاسة الوزراء حتى قبل أجراء العملية الأنتخابية المبكرة التي فرضها المحتجون والمقررة في أكتوبر القادم .
لكن حساب الحقل لا ينطبق مع حساب البيدر دائما .

فقد دفع أغتيال الناشط المدني "أيهاب الوزني" في مدينة كربلاء في ٨ آيار الماضي الى أطلاق حملة أحتجاج واسعة في ٢٥ من الشهر ذاته تحت عنوان "من قتلني" للكشف عن المجرمين والقتلة ومن يقف ورائهم .

وكالعادة فقد جوبه المحتجون بالقمع والرصاص الحي . وكأن الكاظمي هو الوجه الأخر لعادل عبد المهدي ، لا غير .

لكن ذاك دفع الحركة الاحتجاجية الى المزيد من التجذر والافتراق عن التيار الصدري ورفع سقف مطالبها أبعد من الأصلاح المعتاد ، بل والمطالبة الواضحة بدولة مدنية بكامل مؤسساتها اللازمة وفق عملية أنتخابية لا يستطيع الحاكمون تأمين المستلزمات المطلوبة لأجرائها .

وللان تبدو اللوحة السياسية تراوح مكانها ، لا غير . وكأن التوصيف الكلاسيكي المعروف يجمل الوضع تماما : "لا القديم مات ولا الجديد أنتصر"

أن التأمل العميق لحركة الأحتجاج والأنتفاض تحيلنا الى جملة من الأستنتاجات الهامة ، يأتي في مقدمتها الأتي :

أولا ، هي محاولة متقدمة لكسر الحلقة الفارغة لعملية سياسية حملت منذ لحظة التأسيس على يد مهندسها الحاكم المدني الامريكي "بول بريمر" ، حملت بذور موتها المحتوم في بلد متعدد الأعراق والمذاهب والطوائف .

ثانيا ، أكدت حركة الاحتجاج والأنتفاض أن توفر العوامل الموضوعية المتمثلة بنظام فاسد وخال من الوطنية غير كاف للتغيير .
وقد تلمس الشباب ، المحرك الأول للأنتفاض ، أن نقص الخبرة والتجربة الكفاحية وغياب البرنامج السياسي ، ولو بحده الأدنى ، هو من يسهل مهمة السلطة وأجهزتها بقمع الحركة الأحتجاجية . وأن الأمر لا يستقيم بدون "تنسيقيات" أو "أطر تنظيمية" مناسبة ، بعد ان عجزت القوى التقليدية تماما من اللحاق بحركة الشارع المتسارعة وأستلام زمام المبادرة لفرض البديل الشعبي المطلوب .

وهنا لا مناص من التأكيد على بديهية أختبرها تاريخ العراق المعاصر نفسه تتمثل بقدرة الحركة الجماهيرية الدافقة على خلق أطرها السياسية والتنظيمية اللازمة لأنجاز مهام وطنية متقدمة تاريخيا . وقد لا تتعدى المسألة زمنها المطلوب .

ثالثا ، بروز محافظات بدور أستثنائي "كالناصرية والبصرة" في الحفاظ على جذوة الاحتجاجات الشعبية رغم خفوتها في العاصمة بغداد . وهي ظاهرة جديدة ستسهل الى حد كبير توحيد الجهد الوطني من جهة ، وستعقد آلية القمع الحكومي وجدواها من جهة أخرى.

رابعاً ، أعتماد السلطة على مرتزقة الأحزاب ومليشياتها و"نخب" بوليسية وعسكرية للقمع . فقد حيدت الاحتجاجات وأستمراريتها جمهرة واسعة من الجنود والقوات الأمنية لصالحها . وباتت مهمة القمع معقدة الى حد كبير .

خامساً ، غياب شبه كامل لكردستان وشعبها في حركة الاحتجاج رغم فساد العوائل الحاكمة في الأقليم . وينطبق الشئ نفسه على المحافظات الغربية لظروفها الخاصة التي حوّلها الأرهاب الى ما يشبه الركام وبملايين منكوبة لأن .

ختاما أقول ، أن الأزمة عميقة جدا . وهي تعبير جلي عن عجز السلطة ومنظومة الأحزاب السياسية الفاسدة التي تحولت ، وعبر أكثر من دورة أنتخابية ، الى ممثل مزعوم لجماهير مليونية مجوعة ومضامة الى حد بعيد .

وفي المقابل ، من الصعب التعويل على التشكيلات المتباينة والمشتتة من المدنيين والديمقراطيين وتجسير هوة فقدان الثقة بينهم ، ناهيك عن غياب برنامج سياسي مشترك بين الجميع .

وهنا تحديدا بدت الأنتفاضة وشبابها كـ "طرف عراقي ثالث" بين الأثنين ! ...
فهم شباب يملكون الكثير من طاقة الأحتجاج والتحدي ، رغم نقص الخبرة الواضح والأرتباك في رسم الأهداف الواقعية وكيفية تأسيس الأطر التنظيمية المناسبة .

سيكون طريقهم معقد جدا ، لكنهم سينجحون حتما في خلق آليات عمل مناسبة لهم تستوعب طموحهم وتطلعات شعبهم .

عليهم وحدهم تصح المراهنة التاريخية لأنتشال البلد ومعافاته . فهم في الختام يمثلون الضوء الوحيد في النفق العراقي الطويل .



موقع شارع المتنبي
 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter