|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  18  / 10  / 2022                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

تقاسيم على وطن منفرد (*)
قراءة في نصوص يحيى علوان

حسب الله يحيى
(موقع الناس)

الوطن.. قلب وعقل وذاكرة الانسان.. به يكون ، من خلاله يحقق وشم هويته .
وفي الغربة، يحول هذا الوطن الى ما يشبه الشمس البعيدة، او القمر المستحيل، او البحر الممتد، او الصحراء المجهولة، او السماء المتسعة.. والمفتوحة على كل الآفاق.. وقد يكون الجميع .
والكاتب العراقي المغترب الذي يعيش في ألمانيا منذ سنوات : يحيى علوان؛ يستعيد ذاكرة الوطن بكل ما تحمله هذه الذاكرة من شؤون وشجون، من اوجاع وعذابات وسجون وانتظارات.. الى جانب تلك اللهفة المرتجاة للحياة الرغيدة والصفحات الجميلة التي عمل طويلاً من أجل اشراقها.. لا بالنسبة اليه بوصفه ذاتاً ، وإنما بوصفه كائناً إجتماعياً، ليس بوسعه إستثناء نفسه من دون الآخرين .
ومنذ الصفحات الأولى لنصوصه التي أصدرها بعنوان: (تقاسيم على وطن منفرد)* يكتب يحيى علوان :
" ليس تمييزاً ضد بقية الأوطان، لكنه الوحيد في الكون، حتى اليوم، فرادته تتأتى من كونه (تحرر) محتلاً ".
إنه لا ينطلق من موقف عنصري مرفوض، يميز وطنه عن كل الأوطان.. إن ميزة وطنه تكمن في هذا الوعي المستلب والمقهور والمدمر والمسحوق الذي يريدون من خلاله (تحسين) سمعة المحتل، واصفين احتلاله بـ (التحرر) وهو واقع ندركه ونتبين جذوره ونتائجه وكل أساليبه يومياً وفي كل ميدان من ميادين الواقع العراقي الراهن ..
نعم.. نحن في (عراق تحرر محتلاً) وهو وصف لواقع حقيقي ننوء جميعاً تحت ثقله وكوارثه وجرائمه وفساده على اوسع نطاق وعلى أكبر قاعدة يمكن للعراقيين العيش تحت ظلاله السقيمة ..
يحيى علوان، لايستسلم لهذا (التحرر / الاحتلال)؛ وإنما يستل منه صفحات مشرقة لذكريات موجعة ولمسيرة ذاتية، يمكن أن تقرأ بوصفها ذاكرة وطن، وذاكرة نخبة من الوطنيين العراقيين الذين عرفوا بنضالهم الباسل فوق جبال كردستان بوصفهم (انصاراً) .
إنه يعتمد ضمير المخاطب.. الخطاب الموجه للذات: ((رتب رفوف ماضيك، بضمير نقي)) وفعلاً نتبين على امتداد صفحات هذا الكتاب الأثير، كيف رتب يحيى علوان ذكرياته بضمير ناصع البياض.. منطلقاً من بحثه عن (صمت مشترك) هذا الصمت الذي تحول الى غابات من الكلمات الحية التي وجدنا فيضها في هذه النصوص المشبعة بالتجارب الجميلة والمدماة على حد سواء !
يقول: ((حر أنت الآن.. عادي، يمكنك ان تجلس المخيلة في حضنك، تسرح ضفائرها، حتى تستسلم مطواعة)) .
على وفق هذا الانتماء الحميمي للذاكرة، يستعيد يحيى علوان ترتيب مكتبة الذاكرة والتي يحملها معه داخل الوطن وخارجه.. فـ (قد يمد يده لتحسس موضع الوجع في ساقٍ لم تعد موجودة أساساً، وقد يلاحقه الوجع الوهمي- وجع الشبح – الى آخر العمر) مضيفاً وموضحاً: ((وجعك شديد، شديد.. جداً، جراء إصابة روحية فكرية، لاوقت لأحد كي يداويها، وسط زحام اللحم البشري المنثور في كل مكان من منبت الذكرى)).
ومثل هذا التحول الأيجابي الذي تنتقل فيه الأوجاع الى كلمات مجنحة، من شأنها الانتقال بالمتلقي الى احترام القيم والمباديء والأفكار التي يحملها هذا الطراز من الناس.. وهم يقدمون حياتهم رخيصة أمام وطن يعشقونه وينتمون اليه حتى الموت الذي يحولونه كذلك الى نبت يمكن للآخرين الاهتداء الى نمائه وخضرته وبهاء وجوده .
وعندما يقدم لنا يحيى علوان شخصية وطنية مثل (ابو داود) النصير الذي فقد عينه اليمنى واصابته بجروح عند احتلال ربيئة عسكرية وعمليات للأنصار.. مات بحادث مروري في كابول عام 1988، ليذكرنا موته الباهت بحادث مروري داهم المبدع الكبير البيركامو في الجزائر ..
وما كان هذا الحادث المروري ليذكر تسع سنوات من النضال الباسل مع الأنصار لـ (أبو داود) ولا عطاءً فلسفياً وابداعاً كبيراً لـ (كامو).. لذلك يجد الكاتب نفسه ((حياً بالصدفة)) وان الموت يحاصر دائماً كل الخيرين الذين ينذرون أنفسهم للآخرين ..!
ان صورته كما يرسمها :((لاتستطيع الحديث الى أحد، فأنت مركون هنا مثل أية حقيبة او رزمة بريد تنتظر الشحن الى مطار آخر، لايجرؤ حتى الحارس الحديث معك، كأنك حاطوم أو ابليس ..)) .
هكذا يحاصر اللسان، ويتحول الأنسان الى أداة هامشية.. لا حاجة لأحد بها إلا في ضرورات محدودة جداً.. مع ان هذا اللسان يمتلك قدرة عالية للبوح والاعلان عن ضرورات إنسانية هامة جداً.. ومع ذلك و((لأنك تكره الأنتظار، ستشتري أملاً لتقريب وطن هارب)) .
بهذه الحميمية وهذا الاخلاص العميق وهذا الانتماء المخلص.. يكتب يحيى علوان عن الوطن.. وعلى وفق هذا الانتظار يتفاءل :
((ما أجمل ان نتغلب على الحرب فينا بهذا الخوف اللذيذ، يوحد الجسدين، فنسوسُ فيه مسمار اللذة صعوداً.. صعوداً.. كالفراشات مدوخة بالزهر، ساخرين من عواء الحرب بعواء الجسد الملتاع من الشد)) .
إن الانسان المناضل.. ليس إستثناء عن الآخرين في احاسيسه ومشاعره وعشقه ورغباته.. بل هو أكثر قدرة على تقدير وتقييم واحترام أية علاقة حميمية تجمع بين عاشقين.. بوصفه إنساناً يمتلك رؤية تحترم الآخر ومشاعره حدّ التقديس.. فيما يحولها اولئك الناس الجوف الى إهانة وابتذال ونزوات عابرة لا قيمة لها في صنع الحياة ..
يقول يحيى علوان وهو في زهو الوقت:(السماء نظيفة كأنها صبية مغرية خرجت من الحمام تواً) وهو وصف دال على النظرة التي قدّ صاحبها من مجموعة خيرّة تعرف قيمة الجمال وتتعامل معه بذكاء ونباهة واشراق .
وهو نفسه يعي جيداً مايدور حوله.. ويخاطب المتسلطين على رقاب الناس: ((استبدلتم دكتاتورية فرد بدكتاتورية الغيب والخرافة)) .
ان المؤلف ومن منطلق فهمه وادراكه لما يمر به العراق من محن وعقبات وازمات شتى.. يتساءل لماذا لايوجد عندنا مثل (القس الألماني مارتين نيمولار الذي حاكم نفسه عن دوره ايام الحكم النازي، بقصيدة قال فيها :

"عندما جاءوا واخذوا الشيوعيين
لم أقل شيئاً، لأني لست شيوعياً
ولما لم أكن واحداً منهم ،
ما قلت شيئاً
ثم جاءوا وأخذوا جاري النقابي،
وبما أنني لم أكن نقابياً، فما قلت شيئاً
وعندما أخذوا الشماس الكاثوليكي
كذلك لم أقل شيئاً لأنني بروتستانتي
......................
ولما جاءوا وأخذوني،
لم يكن هناك أحد يقول شيئاً لآجلي
"

هنا تكمن اللامبالاة، او اثرة الذاتية العمياء التي لا ترفض ولا تكون شاهداً ولا تدخل في مواجهة مع اولئك الطغاة الذين يعمدون الى اعتقال العقل وقتل كل ما لا تتفق معهم في اساليبهم القمعية وتوجهاتهم التدميرية واعمالهم التخريبية وفسادهم على وفق كل الصور والاتجاهات ..
إن يحيى علوان.. وهو يتنبه الى "الاتفاقية الأمنية وهي تطالبنا عملياً، والى زمن نجهله، بأن نقايض موتنا (الآمن) بحياة المحتلين الموتورة، كأن علينا إنقاذ الاحتلال من مصيره.. "
أما "إذا ما تساءلت متململاً وبسذاجة، ماذا يريد المحتل في وطني، سأتهم فوراً بالارهاب والصدامية..) !!
يحيى علوان.. يمتلك القدرة على الغضب والتمرد والمواجهة ومن ثم الشجاعة على عكس مايقوله سقراط:(من لايمتلك القدرة على الغضب، تعوزه الشجاعة) .

وبعد :
هذه النصوص – وإن تنبه صاحبها الى تكرار بعضها.. كما يشير :
"حفزني، ولا أقول استفزني، قول صاحب لي.. ياأخي موضوعك واحد.. نفسه، تعود اليه.. وبشكل جاد "؛ تظل نصوصاً دائمة الحضور في حياتنا.. واستعادتها وتكراراها على وفق ألوان وأساليب ورؤى مختلفة؛ تبقى نصوصاً جديرة بالقراءة والتأمل والمراجعة.. واحترام واكبار جهد نضالي وفكري معمق لكاتب مجتهد مثل يحيى علوان ..



 

(*) تقاسيم على وطن منفرد/ يحيى علوان / دار كنعان – دمشق 2014


 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter