|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  11  / 1 / 2018                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

نظام الحكم في العراق وفق دساتيره الحديثة

د. عبدالحسين صالح الطائي *
(موقع الناس)

صدر حديثاً كتاب للقاضي العراقي الدكتور عبدالحسين شندل عيسى بعنوان: (نظام الحكم في العراق وفق دساتيره الحديثة)، عن المكتبة القانونية – بغداد، تضمن معلومات قانونية موثقة ذات أهمية بالغة في رصد المخالفات الدستورية التي ارتكبها كلا النظامين الملكي والجمهوري، سعياً وراء السلطة، التي مثلت جوهر الصراع منذ الأزل، مركزاً على طبيعة النظام السياسي في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية.

الكتاب من فصلين، غطى الفصل الأول نظام الحكم الملكي، وحقوق الشعب، ومدى التقيد واحترام دستور (القانون الأساسي للمملكة العراقية)، الذي جرت عليه ثلاثة تعديلات خلال فترة نفاذه في 21 آذار 1925 لغاية 14 تموز 1958، مع إطلالة تاريخية لوضع العراق في ظل الاحتلال البريطاني، وإشكالية اختيار مَنْ يحكم العراق، موضحاً بأن قرار مجلس الوزراء كان باختيار الملك فيصل بشرط أن تكون حكومته دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون، ولكن التدخلات المباشرة من المندوب السامي البريطاني في تشكيل الوزارات المتعاقبة، وإملاء رغبة الحكومة البريطانية في الإختيار والإشراف وفي ضمان المصادقة على قبول المعاهدة العراقية البريطانية كشرط لقبول العراق في عصبة الأمم، أفرغت المسار الديمقراطي في العراق من جوهره، وأصبحت ثقافة التجاوز وعدم إحترام الدستور هي السائدة في مجتمعنا العراقي إلى اليوم.

تضمن الدستور العراقي أكثر المفاهيم العصرية التي تتعلق بحقوق الشعب، المستوحاة شكلياً من التاريخ النضالي لفلاسفة الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، والتي تجسدت في حق الحرية والترشيح وإبداء الرأي وإكتساب الجنسية والحقوق الشخصية المكفولة كحق التملك وغيرها من الحقوق التي جاءت بفعل نضالات الشعب العراقي، ولكن المؤلف، أكد وبشكل شفاف وبدلائل موثقة عديدة، بأن حقبة الحكم الملكي كانت خالية من محتوى النظام والمراقبة، وقد مُنحت إمتيازات واختصاصات واسعة للملك وفقاً لدستور آذار 1925، هذه الصلاحيات أثرت بشكل سلبي قوي على مجرى الحياة السياسية العامة التي كانت تتطلب وجود تأثير متبادل يقوم على أساس الإسهام والتوازن في ممارسة السلطة بين المؤسسات الدستورية والسلطة السياسية: (كانت للملك هيمنة على أعمال مجلس الأمة، حيث أسهم الملك في ممارسة السلطة التشريعية، عن طريق التصديق على مشروعات القوانين بعد صدورها من مجلس الوزراء بصفة قرار). وهذا ما لمسناه بوضوح في مسألة تبديل رؤساء الوزراء وفقاً لأهواه الملك وبإشارة منه، بحيث تقلد أكثرهم الوزارة لأكثر من مرة.

إرتبط مبدأ الفصل بين السلطات بإسم الفيلسوف السياسي الفرنسي (مونتيسكيو)، والذي ما زالت أفكاره تُعد الحجر الأساس في النظم الدستورية، يهدف هذا المبدأ إلى تنظيم العلاقة بين السلطات العامة للدولة لمنع تركيز السلطة في يد واحدة، ولكن واقع الأحداث يشير بأن الصلاحيات الممنوحة إلى الملك قد تقاطعت مع هذا المبدأ، ونتج عنها أحكام استبدادية بعيدة عن أماني وتطلعات الشعب العراقي: (وعلى الرغم من أن مجلس النواب كان يتكون بطريقة الإنتخاب، إلا أن هذا الإنتخاب لم يكن إلا عملاً شكلياً وظاهرياً لإضفاء الطابع الديمقراطي على تكوين هذا المجلس، أما الحقيقة فهي أن الملك، بمعاونة وزرائه، كان يختار النواب عن طريق ما يسمى بقوائم الترشيح الحكومية التي كان فوزها مضموناً).

أما الفصل الثاني كان استعراضاً لطبيعة نظام الحكم الجمهوري ضمن إطار دستور 1958، وما أعقبه من دساتير وقوانين جرى التجاوز عليها ولم يتم التقيد بها وإحترامها.

ففي بداية العهد الجمهوري في 1958، سعت الحكومة إلى إتباع سياسة تخدم مصالح العراق، وتحرير الثروة النفطية من إحتكار الشركات الأجنبية، وتحفيز الأوضاع الإجتماعية نحو الأفضل وتحسين الخدمات وحل مشكلة السكن لكثير من أبناء الطبقة الوسطى، ولكن بمرور الزمن تصاعدت النعرة الفردية في الحكم بسبب الثغرات الموجودة في الدستور المؤقت، بحيث أصبح مجلس السيادة تابعاً لمجلس الوزراء في كل قراراته وتشريعاته، ويأتي بالمرتبة الثالثة بعد القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء، الذي أصبحت سياسته فردية في إسلوب إدارة شؤون الدولة، وجمع بين يديه السلطتين التشريعية والتنفيذية.

وبعد أن إتخذ نظام الحكم في العراق خطاً مستقلاً في ظل زعامة عبدالكريم قاسم، تحركت القوى الأجنبية لإسقاطه وإستبداله بنظام جديد بانقلاب عسكري في 8 شباط 1963، نظام البعث الجديد حظي بدعم الإستخبارات الأمريكية. كان الإنقلاب يحمل أجندة إنتقامية عنفية لتسوية الحساب مع قادة الحكم الجمهوري، فتحول إلى كارثة حلت على العراق بنطاق واسع حيث جرت تجاوزات كبيرة على دستور رقم 25 لسنة 1963، بدءاً من المحاكم الفوضوية التي مارسها قادة الإنقلاب بإعدام خصومهم بدون محاكم، وممارسة الحرس القومي لإسلوب الإبادة ضد خيرة أبناء الشعب دون رحمة طيلة الفترة ما بين شباط وتشرين الثاني 1963. ثم جاء إنقلاب 18 تشرين الثاني 1963، الذي أنهى السلطة الفاشية للحرس القومي، ولكنه منح صلاحيات إستثنائية لرئيس الجمهورية بموجب القانون رقم (9) لسنة 1963، والدستور المؤقت في 13 مايس 1964، وبموجب هذه الركائز القانونية، أصبحت السلطة المأثورة بيد عبدالسلام عارف، نتج عنها ترسيخ لثقافة الإنقلابات العسكرية في العراق.

وبموجب الدستور المؤقت في أيار 1966، خلف عبدالرحمن عارف شقيقه عبدالسلام الذي تحطمت به طائرته في الجو، ليكون رئيساً للجمهورية، وخلال هذه الفترة جرى تعديل الدستور في 6 أيار 1968، وحصلت فيه تجاوزات واضحة بمنحه السلطة التشريعية. لم يكن هذا التعديل مقنعاً، وكان من المفروض أن يقام حكم ديمقراطي، يفسح المجال أمام المواطنين لممارسة حقوقهم وحرياتهم. وكان إصرار رئيس الجمهورية في منصبه نتيجة طبيعية في سقوطه بإنقلاب عسكري في 17 تموز 1968، الذي تركزت فيه السلطة بيد مجلس قيادة الثورة في إدارة شؤون الدولة بما فيها السلطات التشريعية وصلاحيات رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة، كما ورد في الدستور المؤقت في 21 أيلول لعام 1968. وكذلك بفترة قصيرة جرت عليه تعديلات واسعة صدرت بقرار رقم (792) في 16 تموز 1970، تضمنت تكريس السلطة في قيادة حزب البعث.

مارس نظام حزب البعث إنتهاكات إنسانية واسعة خلال فترة حكمه الطويلة، وتدخل بشكل كبير في إستقلالية القضاء. كانت معالجة دستور 16 تموز 1970 للقضاء مغايرة لدستور 21 أيلول 1968، بإتجاه يتفق مع مبدأ تركيز السلطة، ويبتعد عن مبدأ الفصل بين السلطات. وبالرغم من أن الدستور أشار إلى أن القضاء مستقل ولا سلطان عليه لغير القانون، وكفل حق التقاضي لجميع المواطنين إلا أن الواقع غير ذلك، فالمحاكم التي أسسها نظام حزب البعث كالمحكمة الخاصة، محكمة الثورة وغيرها مخالفة لأسس دولة المؤسسات الدستورية، وبالتالي لا يمكن أن تتوفر أبسط الضمانات لحرية تطبيق القانون أو لحصانة القاضي.

لقد وضعنا المؤلف أمام تساؤل كبير: هل النظام السياسي ابن بيئته ؟، وهل كل مجتمع يفرز سلطة من نوعه ؟. وتطرق إلى حالة إنتشار الإنقلابات العسكرية التي لم تُعد عملاً دستورياً مشروعاً، وأوضح بأن كل المبررات التي قدمها قادة الإنقلابات غير مقبولة لأنها إنعكست سلباً على مستقبل العراق وإستقراره السياسي. وأكد بأن اللجوء إلى إكتساب الشرعية القانونية بالتدخل بالحكم وسن دساتير تمنح الصلاحيات الواسعة هو الخداع بعينه، بل يعكس طموحات بعض العسكريين في الإستئثار بالسلطة. فمن إستقراء الأحداث ومسيرة نظام الحكم في العراق، بكل مراحله الزمنية، يتضح بأن أنظمة الحكم إتسمت بفردية الحاكم ودكتاتوريته في السعي لحصر كافة الصلاحيات له. وهنا يمكن القول بأن أكثر الدساتير جاءت معبرة عن مطالب الجماهير الشعبية، وأكثر نصوصها منسجمة مع تطلعات الناس، ولكن للأسف حُرفت ولم ترَ النور في التطبيق.

وختاماً لا يسعنا إلا التأكيد على أهمية هذا الكتاب، لأنه إسهامة علمية قانونية وافية في رصد التجاوزات التي حصلت على الدساتير، وفي الكشف عن أكثر الأحداث البارزة في تاريخ العراق المعاصر، والتي من خلالها ندرك حقيقة الواقع الذي وصل إليه شعبنا العراقي اليوم.

 

* أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter