|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  2  / 2  / 2011                                 زكي رضا                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

كل شيء قابل للمصادرة الا الحلم ......

زكي رضا
(موقع الناس) 

المصادرة في اللغة هي اشتقاق من الفعل ( صدر ) ، وجاء في المعجم الوسيط ( صادرت الدولة الاموال ، أي استولت عليها عقوبة لمالكها ) . وفقهيا لم يخرج رجال الدين في تفسيرهم للمصادرة ، عن ما جاء في اللغة ، فتراهم يفسرون الكثير من الآيات والاحاديث ، مستندين على الجانب المالي ( وهذا يشمل العقار والمال والمال الصامت والاجهزة وغيرها الكثير ) من المصادرة ، كعقوبة ينزلها السلطان بحق رعاياه .

وبالعودة الى التاريخ ، فاننا نستطيع ان نبحر في عالم من الاضطهاد بحق الشعوب والاوطان ، كانت المصادرة فيه ركنا اساسيا ، من بقاء وديمومة الحكام والانظمة والدول ولو الى حين . لأن عجلة التاريخ لم ولن تتوقف عند نقطة معينة ، وبالتالي ليست هناك نهاية ( على المدى المنظور ) للتطور ، والمضي قدما نحو آفاق اكثر رحابة سواء على صعيد السياسة أوالعلوم أوغيرها من ميادين الحياة .

وكانت مصادرة الابناء والزوجات وبيعهم كعبيد واماء ، لعدم تسديد الرجل ديونه ، مظهرا من مظاهر المصادرة الاكثر ايلاما في تاريخ الانسانية * خلال احدى احلك فتراتها . ورافقتها مصادرة أراضي الفلاحين البسطاء وغلاتهم ، وتطورت اشكال المصادرة حتى انتهت اليوم ، بسن قوانين تنص على مصادرة الاموال المنقولة وغير المنقولة .

اما الانظمة الدكتاتورية او الديموقراطية !! التي تقفز على دساتيرها او تعدلها وفق مقاسات حكامها ، أشخاص كانوا أم أحزاب . فانها بالاضافة الى مصادرة ثروات شعوبها ، ولخوفها من المواطن فأنها تصادر حريته ، ولخوفها من الفنان فأنها تصادر نتاجه ، ولخوفها من السياسي والمثقف فانها تصادر كلمته ، ولخوفها من العامل فانها تصادر حقه في تشكيل نقابة ، ولخوفها من الصوت المعارض وان كان ضمن العملية السياسية الديموقراطية فأنها تصادر الرأي ، ولخوفها من النهضة فأنها تصادر الوعي بعملها الدؤوب على اتساع رقعة الجهل والامية ، اللتان تنتجان التخلف ، الذي تشعر من خلاله السلطات بالامان ، وهذا ما يدفعها الى مصادرة التعليم الذي يتراجع باستمرار في عهودها ، ولخوفها من المرأة ومساهمتها مع اخيها الرجل في التغيير ، فانها تصادر حريتها وتقمعها بقوانين عفى عنها الزمن منذ عشرات العقود . ولخوفها من الصندوق الانتخابي ، فانها تصادر الصوت الانتخابي . ولخوفها من الاحتجاج فأنها تصادر حق التجمع والتظاهر الا بموافقتها !!

وهناك حالات غريبة من المصادرة تجعل الانسان ان يتوقف عندها كثيرا ، وهي مصادرة الذكريات ، من خلال مصادرة الصور الفوتوغرافية على سبيل المثال . وهذا ما حصل للكرد الفيليين اثناء تهجيرهم الى ايران ، اذ لم تكتفي السلطة البعثية الفاشية حينها بمصادرة اموالهم المنقولة وغير المنقولة ، ووثائقهم الثبوتية والدراسية . بل قامت بمصادرة حتى صورهم الشخصية ، من خلال ( فرهدتها ) لكل ما يملكون ، في عودة الى الثقافة البدوية التي لازال الفكر القومي ولليوم ، يعتبرها منهلا له على الرغم من اثبات عقمه .

والان وبعد ان استعرضنا اشكالا عدة من المصادرة ، فهل يستطيع احدا ان يدلني على حاكم قادر على ارسال جلاوزته لمصادرة حلم ؟ الجواب قطعا لا . ولأنني في مأمن من هؤلاء الجلاوزة ، حيث لا أعيش في بلدي الذي كنت احلم بالعودة اليه ، ديموقراطيا موحدا زاهيا آمنا مستقرا (لأن النظام الحالي لا يعترف بعراقيتي ) ، والاهم من هذا بلدا غير طائفيا ، ولا مكان فيه للفاشية قومية كانت ام دينية من جهة . ومن الجهة الاخرى فانا في مأمن ايضا لانني سأسمح لنفسي ان احلم ، سواء خلال النوم ام في اليقظة ، لانه من الصعب محاسبتي على حلمي .. ولكن كعادة اي حالم فانه يقوم بسرد حلمه الى البعض كي يشاركوه تفسيره ، او يتوجه الى ( ابن سيرين ) !! ليستعين بما جاء به في تفسير حلمه .

ولان حلمي هذا يراودني منذ اكثر من شهر ، في النوم واليقظة وفي البيت او في العمل . وفيه ساحات وشوارع ، وحشود من البشر من رجال ونساء ، ودبابات وطائرات ورجال شرطة وجيش ، وصحافة واعلام وفضائيات ، وشباب يحرقون انفسهم يأسا من اوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية بائسة . فانني اعتقد جازما من ان تفسير حلمي ليس عند ( ابن سيرين ) ، بل عند الفقراء والمحرومين والعاطلين ، عند العوائل التي تعيش بما يجمعها اطفالها من تلال القمامة ، عند الذين يعانون يوميا من نقص الخدمات المزمن ، عند المرضى الذين لا يملكون ثمن الدواء ، عند عاطل لا يحصل على عمل الا اذا انتمى لاحد احزاب السلطة ، عند تلاميذ يتكدسون في صفوف مهملة ، او في مدارس من طين ، عند فلاح يبكي ارضه التي ماتت عطشا ، عند ارملة قتل معيلها في حرب طائفية غبية ، او في تفجير لبهيمة ارهابية ، عند مثقف يحكمه أمي ، عند عالم يحكمه جاهل ، عند سياسي لازال يحمل شيء من الكرامة ، عند نائب برلماني بقيت على جبينه قطرة حياء لم تجف بعد ، عند سكان يعيشون في بيوت من الصفيح على اطراف المدن ، عند شعب يرى الفقير يزداد فقرا والغني يزداد غنى ، عند شعب يرى قادة دولته متخمين وعوائلهم متحصنين في المنطقة الخضراء ، ويتعرض هو يوميا لخطر الموت اليومي ، ان لم يكن بتفجير ارهابي فبمسدس كاتم للصوت ، او بنقص الدواء وشحته ، وانقطاع الكهرباء اثناء عملية جراحية . عند شعب ينظر الى ثرواته وهي تنهب من لصوص بهيئات مختلفة .

نعم عند هؤلاء تفسير حلمي الذي يؤرقني ، منذ ان حرق ( بو عزيزي ) نفسه ، لينير بجسده الطريق ليس امام الشعب التونسي الظافر فقط ، بل امام الشعوب العربية وشعوب المنطقة . وها هي طلائع تلك الشرارة تجتمع لتتجاوز المليون حنجرة في ميدان التحرير في قلب مصر ، وهي تهتف ضد رمز الفساد والظلم ، ضد الدكتاتور حسني مبارك وبطانته من اللصوص ، سراق المال العام . من اجل غد افضل لمصر وشعب مصر ، ومن اجل نظام ديموقراطي حقيقي ، لا مكان فيه للصوص والمرتشين والمزورين والقطط السمان ، ولامكان فيه للذين يدقون الاسفين بين مسلميها واقباطها ، ولا مكان فيه لمصادرة الحريات الشخصية ، بل مصرا لجميع المصريين ، بمختلف اديانهم و خلفياتهم الثقافية ، مصر لا مكان فيها للتعصب الديني والطائفي ، مصر تحترم فيها السلطات الثلاث ، ويتم فيها الفصل الكامل بين الدين والدولة .

نعم ان حلمي هو ان تتحول ساحة التحرير في قلب بغداد ، الى ساحة يجتمع فيها كل المحرومين والفقراء والبسطاء ، يجتمع فيها كل الذين يعانون من شظف العيش ونقص الخدمات المزمن ، كل الذين ينظرون الى بلدهم الذي تتقاذفه اهواء السياسيين واجنداتهم غير العراقية ، حلمي ان ارى طلبة الجامعات والمدارس العراقية ، كما زملائهم المصريون ، وهم يتقدمون صفوف البؤساء من اجل غد افضل لهم ولشعبهم ، حلمي ان ارى فناني بلدي يتقدمهم فنان أو مخرج كما في مصر، حلمي ان ارى المثقفين العراقيين يقودهم شاعر او قاص او كاتب ، حلمي ان ارى الملايين تزحف نحو المنطقة الخضراء ، كي تشرق الشمس لتفضح الحرامية والمزورين والمرتشين والبلطجية . انه مجرد حلم فهل بالامكان مصادرته ؟



* كررها النظام البعثي ببيعه فتيات كرديات ، من ضحايا عمليات الانفال ، بعد ان باع قسما منهن الى نظام حسني مبارك .


الدنمارك
2 / 2 / 2011

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter