|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  27  / 12  / 2010                                 زكي رضا                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

هل النقد يشكل خطرا على العملية الديموقراطية ؟

زكي رضا
(موقع الناس) 

قبل واحد وثلاثون عاما تقريبا ، كنت اتجول في شوارع طهران ، حينها كان الشارع الايراني وقبل اندلاع الحرب الصدامية الخمينية ، ساحة للحوار الساخن بين المجاميع السياسية الايرانية . التي تذوقت طعم الحرية ، اثر القضاء على أشرس نظام قمعي عرفته المنطقة ، مشاركة ومناصفة مع نظام البعث الفاشي ، الذي والحق يقال ابتز جميع الانظمة الفاشية في العالم ، من خلال جرائمه التي أصابت الفاشيين من أمثاله ، بالغثيان لوحشيتها وساديتها . وبالتأكيد فانني لم اكن في ظل تلك الاوضاع الغير طبيعية سائحا ! لأن اوضاع ايران حينها لم تكن تغري احدا بالسياحة فيها الا المجانين ، بل كنت مهجرا من بلدي حالي حال الالاف من ابناء جلدتي ، الذين فقدوا كل ما يملكون ، لانهم كانوا بنظر البعث الساقط أعداء ( للحزب والثورة ) ! .

اثناء تجوالي اليومي في تلك الشوارع بصحبة صديق لي ، كان قد خان حزب البعث وثورته قبلي بعشر سنوات . وصلنا الى أحدى التقاطعات المعروفة في العاصمة الايرانية طهران وهو تقاطع اسطنبول ( جهارراه استانبول ) ، حيث السفارات البريطانية والتركية والالمانية الغربية ( قبل انهيار جدار برلين ) ومقر المجلس الاسلامي الاعلى لاحقا . وكانت حلقات النقاش على الارصفة ، تغري الانسان الفضولي مثلي ، والذي لم يعايش مثل تلك الحالة الثورية سابقا . أن يتوقف ليستمع الى ما يدور من نقاشات ، بين شابات وشبان من ميول سياسية مختلفة ، كانت تصل أحيانا الى الضرب بل والى أطلاق الرصاص . ولكنني وبحكم خلفيتي السياسية ، جذبتني طاولة تصطف عليها صحف ومنشورات تتخذ من المنجل والمطرقة شعارا لها ، يقف خلفها رجل ستيني كانت سيماءه تدل على معاناة طويلة ، وامامه حلقة من الشبان كان احدهم منفعلا جدا وهو يتحدث اليه . ولأنني لم اكن اجيد الفارسية حينها ، فان صاحبي تولى ترجمة ما يدور بين الاثنين لي . و كانت خلاصتها هي ان الرجل الكهل ، كان يطلب من الشاب واصحابه ، التزام الهدوء ازاء التصرفات الاستفزازية للجماعات الاسلامية . التي كانت تهاجم تلك التجمعات بين الحين والآخر ، مستخدمة العصي والهراوات والاسلحة البيضاء والنارية أحيانا . لأن الديموقراطية بنظر ذلك الرجل عبارة عن مخاض ، وما كان يجري حينها هو تجلي لذلك المخاض الذي سيرسي في النهاية ، نظاما ديموقراطيا حقيقيا في البلاد . قائلا له ، انني احسدك ايها الشاب ، لانك ستجني ثمار سنوات السجن الطويلة للالاف من امثالي ، من الذين عبدوا الطريق بارواحهم واجسادهم كي تصل ايران الى ما هي عليه اليوم . وانك ايها الشاب بعد عقدين او ثلاثة ، وعندما اكون أنا حينها قد غادرت هذه الحياة ، ستتمتع بالحرية والديموقراطية . وتعرف ان موقفك اليوم ضد القوى الاسلامية ، التي تعمل على ارساء الديموقراطية سوية مع القوى السياسية الاخرى ، كان موقفا خاطئا .

واليوم وانا انظر الى التجربة الديموقراطية الايرانية !! التي لم تستطع الا انجاز ديموقراطية ولاية الفقيه . حيث الانتخابات فيها يجب ان تمر ( بفلتر ) مجلس الخبراء " مجلس خبركان " ، ليكون بعدها امام حق الفيتو لنائب الامام الحجة ( المهدي ) اي ولي الفقيه . فانني أرثي لحال ذلك الرجل الكهل ، الذي قد يكون غادر الحياة اليوم ، لأن الحياة اثبتت خطل قراءاته وحزبه ، وكل القوى والشخصيات الديموقراطية ، والليبرالية الحالمة بالديموقراطية للاوضاع السياسية حينها . بعد ان حرق الاسلاميون كل المراحل بضربة معلم ، و بلع حوت الاسلام السياسي ، جميع الاحزاب والمنظمات الايرانية . ولتصبح الشريعة وتطبيقاتها سيفا مسلطا على الحريات الفردية ، التي تكفلها كل القوانين الديموقراطية في العالم ، ومن ضمنها الدستور الايراني نفسه .

قد يطرح أحدهم ( وهو على حق ) ، ان الوضع السياسي في العراق اليوم ، لا يسمح اطلاقا بصناعة دكتاتور على المستوى الرسمي . مستندا الى الفرز المذهبي بين عرب العراق ، والقومي بين العرب والكرد والتركمان وباقي القوميات ، وبين الصراع الديني المحسوم سلفا . كما أن الدستور وبالطريقة التي كتب بها ، يجعل من الاستحالة ان تملك اية جهة من الجهات تلك ، الاغلبية الكافية لها لتمرر اجندتها بسهولة . ولكن الذي فات هذا البعض ، هو الدستور نفسه الذي يساعد على صناعة دكتاتوريين وليس دكتاتورا واحد ، بعد ان اعطى الحق للحكومات المحلية ، في تنفيذ القوانين التي تتناسب من وجهة نظرها مع عادات وتقاليد المجتمع ، والاهم من ذلك انها تتناسب وما جاءت به الشريعة . ومن هنا فأن الرأي القائل في امكانية قيام نظام ولاية الفقيه في عموم العراق ، ووجود دكتاتور رسمي في بغداد هو نصف الحقيقة ، وفي الوقت نفسه فأن الرأي المخالف للرأي السابق ، والقاضي بأستحالة قيام دولة فقيه ، ووجود دكتاتور او اكثر هو نصف الحقيقة ايضا .

ان السبب في عدم امكانية استنساخ التجربة الايرانية كنموذج للحكم في العراق ، لا يعود الى ديموقراطية قوى الاسلام السياسي ، او الى عدم رغبتها في ذلك على الاطلاق . لان المسألة لو كانت رغبوية ، لأعلنت قوى الاسلام السياسي اليوم وليس غدا ، العراق جمهورية اسلامية على غرار التجربة الايرانية . ولكن وجود الكرد وسنة العراق وغيرهم ، يجعل من حلم الاسلاميين بدولة اسلامية غير قابل للتطبيق ( على مستوى العراق ) . اما مجالس المحافظات وما تملكه من سلطات منحها لها الدستور ، فانها تستغل كل القوانين التي تمكنها من التجاوز ، على القوانين الاتحادية وبعلم الدولة وسكوتها ، لتطبيق قوانين اسلامية تشير بوصلتها الى اسلمة المجتمع ، وتحد بل وتلغي كل ما تضمنه الدستور العراقي ، من قوانين تحمي الحريات العامة والشخصية للمواطن ، وهذا ما يجري اليوم في المحافظات الجنوبية خصوصا ، وهنا نكون قد صنعنا اكثر من دكتاتور ، ولا يهم بعدها ان يكون هناك في بغداد دكتاتورا ام لا .

هناك من يعمل على اتهام كل من ينتقد ، الاساليب غير الديموقراطية للحكومة المركزية ، والحكومات المحلية وتجاوزهما على الدستور . على انهم لا يقرأون الواقع السياسي للبلد ، ولم يستفادوا من التجارب التاريخية التي مرت على العراق منذ العهد الملكي لليوم . واصبحت عبارة ( حرق المراحل ) لازمة لهم ، لاثبات علو كعبهم من جهة ، واثبات جهل الاخرين وفشلهم في قراءة الواقع السياسي ، من الذين قضوا عقودا في النضال ، ولم يتعلموا للآن الف باء السياسة من جهة ثانية . مطالبين هؤلاء من خلال تقديم النصائح الابوية لهم ، بتفهم الحالة الديموقراطية الوليدة في العراق ، وعدم انتقاد اصنام الاسلاميين ، لانهم الوحيدون الذين جلبوا الرخاء للعراق !! ولان الديموقراطية تحتاج الى سنوات كي تستقر ، وتكون لها مؤسسات قادرة على النهوض بالمهام الملقاة على عاتقها . هذا صحيح ولكننا نستطيع ان نشبه الديموقراطية على سبيل المثال ، بدعامات تحمل جسرا طويلا ليعبره اي مجتمع ، ليصل الى الضفة الاخرى حيث دولة المؤسسات والقانون . وهذه الدعامات يجب ان تكون متينة لتتحمل ثقل الجسر (العملية الديموقراطية) ، وتقاوم جريان المياه ( التحولات الاجتماعية والسياسية ) ، التي ستظل لسنوات طويلة هادرة قبل ان تستقر بصورة شبه نهائية ، وهذا يعتمد على منظومة الوعي عند ذلك المجتمع ودور المثقف في شحذ هذا الوعي ، وعدم غياب دور الدولة كما هو اليوم . وعليه فان اي خطأ في اساسات تلك الدعامات سيكون ذو نتائج كارثية ، وهذا لا يعني عدم وقوع اخطاء ( فهذا امر غير ممكن ) كلما تقدم العمل ، ولكن المهم هو عدم وقوع اخطاء في البنية الاساسية ، وعدم التجاوز على القياسات ( هنا نعني الدستور ) وقراءتها بشكل انتقائي .

وعلى الرغم من التجاوزات العديدة من قوى الاسلام السياسي وغيرها على الدستور ، وتعديهم على الحريات الشخصية والعامة للناس ، فاننا نجد البعض يصر اصرارا غريبا على تجاوزها ، على الرغم من ان هذه التجاوزات لا تعرقل ، بل تنسف العملية السياسية على المدى البعيد . وذلك لسببين وفق رؤيتهم للامور ، اولهما ان الديموقراطية تمر بمراحل مد وجزر قبل ان تستقر ، والاخرى هي الحؤول وعدم عودة البعث المجرم الى واجهة الاحداث ثانية .

من خلال دراسة التجارب الديموقراطية في العالم ( هنا يهمنا العراق ) ، نستطيع ان نتوصل الى حقيقة اشبه بالبديهية ، ولا تحتاج الى عقول سياسية جبارة كي تفسرها . هي ان الديموقراطية تحتاج الى سنوات طويلة حتى تأخذ شكلها شبه النهائي ( لا يوجد نظام ديموقراطي دون نواقص على سطح الكوكب ) ، وهذا يعتمد على امور عديدة منها ، معالجة الخلافات بين الاطراف السياسية بشكل حضاري ، ووجود الثقة فيما بينهم ، و تحسن الوضع الاقتصادي ، والقضاء على الامية بما يساهم في زيادة الوعي الايجابي في المجتمع ، ومعالجة الآثار السلبية التي تركتها الدكتاتورية . التي تكون عاملا اساسيا عادة في تلكؤ العملية الديموقراطية ، وفقدانها لبوصلتها احيانا ، ونكوصها الى الخلف ، مثل الرشوة والتزوير ، وغياب النزاهة والشفافية ، واستغلال وسرقة المال العام والاثراء غير المشروع ، وغياب قانون الاحزاب وغيرها الكثير . ولكن يبقى العامل الاهم هو التجاوز على الدستور ، ومصادرة الحريات التي بدونها ، تبقى الديموقراطية بلا طعم ولا لون ولكن لها رائحة نتنة ، هي اقرب الى رائحة الطائفية التي ينزلق البعض اليها احيانا دون ان يدري .

ايها السياسيون والكتاب والصحفيون ، يا رسامي الكاريكاتير والفنانين والادباء ، يا من تعز عليهم قضايا الانسان وحريته وكرامته ، ارفعوا قبعاتكم عاليا وانحنوا باجلال لديموقراطية المحاصصة . فضرب الطالبات في سفرة جامعية والغاء مهرجان موسيقي ، والخوف من حيوانات مروضة في سيرك ، والغاء قسمي المسرح والموسيقى وجمع منحوتات الطلبة في معهد الفنون الجميلة ، وغلق نادي اتحاد الادباء واهانتهم ، والتضييق على الصحفيين ، ومصادرة حريات الناس الشخصية التي كفلها الدستور ، هي جزء من الديموقراطية التي عليكم ان تدعموها ، فمرحى لهذه الديموقراطية . اما تغييب المرأة ووأدها سياسيا بعدم منحها حقيبة وزارية وعلى خلاف الدستور ، هي جزء من الديموقراطية التي عليكم السهر على راحتها ، كي لا يصيبها الزكام ، ومهاجمة مقر الحزب الشيوعي العراقي في النجف بالاسلحة النارية ، مع صمت الحكومتين المركزية والمحلية ، هي جزء من الديموقراطية التي عليكم التبشير بها ، حتى اثناء فترة النوم . اما استخدام لجنة اجتثاث البعث وقراراتها بحق عدد من البعثيين ، كجزء من حملة انتخابية . والقبول في النهاية بعد الاستفادة القصوى من تلك الحملة ، بان يعود المجتثون ليشغلوا مراكز حساسة في الدولة فهي الديموقراطية بعينها . وهي التي يريدكم البعض ان تدعموها حتى النفس الاخير ، ولا ادري هل هؤلاء البعثيون الذي عادوا الى احضان الحكومة الدافئة ثانية ،هم انفسهم الذي طالب الاسلام السياسي بابعادهم بعد ان ملأ آذاننا زعيقا ، وهل هم غير اولئك البعثيين الذين يطالبكم ذلك البعض ، بالسكوت على كل موبقات الاسلام السياسي كي لا يعودوا للسلطة ثانية !! ؟

المشكلة في عراق اليوم ، هو وجود كتاب يريدون من الاخرين ، ان يستمعوا اليهم والى نصائحهم . ليس من اجل مصلحة الاسلام السياسي مثلما يدعون . بل من اجل الديموقراطية ومصلحة الوطن ، المهدد بعودة البعثيين الى واجهة الاحداث ثانية . وكأنهم الوحيدون الذين ذاقوا مرارة حكم البعث وساديته وفاشيته واجرامه . متناسين ان عودة البعث الى السلطة ثانية ، لم يكن بسبب الشخصيات والقوى الديموقراطية ، التي قرأت مرارا ولا زالت التاريخ بشكل خاطيء مثلما يقولون . بل بسبب كرسي رئاسة الوزراء ، لانه الوحيد القادر على فرض استمرار الاسلام السياسي ، واستهتاره بحريات الناس ومصادرتها ، ونهب ثروات البلد كما البعثيين سابقا . والمشكلة ان هؤلاء الكتاب يضطرون بين مقالة واخرى ، الى نفي ميلهم لهذه الشخصية السياسية او تلك ، متناسين ان شعبنا (يقره الممحي والمكتوب) .

اللي جوه ابطه عنز يمعمع - مثل عراقي

الدنمارك
27 / 12 / 2010


 


 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter