|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  3  / 4 / 2018                                 يحيى علوان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

وَجـعُ المــاء ..!

يحيى علوان
(موقع الناس)

 

إِنْ إغتَسَلَتْ السماءُ ، جُـنَّ فـي العصافيـرِالحنينُ للمـدى ..
وللريـحِ خُيـولُ البرّيَّـةِ لِجـامَ شوقٍ أَفلَتَتْ ...
بالحُلُمِ يشتَعِلُ الوقتُ ، حينَ توغِلُ الغُيـومُ بالرحيـلِ ..
النهـارُ ماسِيَّ الصفـاءِ يَغدو .. والهـواءُ رَخـواً كالحريـر يصير ..
..................................

إثنَينِ كانـا ، علـى دراجتين ، ثالثهمـا الظـلُّ ورابعهما ظِـلٌ آخَـرَ ..
تستدرِجهم الوَهـدَةُ ، حتى شَفا بُحيـرَةٍ ، تَتَثاءَبُ فـي الضُحـى ..
تَتَشهّى ضجيجاً ، أو مَـنْ يُشاكِسُ كَسَلَ مرآةٍ علـى خَـدِّ المـاء ..
البُحيرةُ حَقلُ مـاءٍ لَمْ ينَمْ الليـلَ مَقروراً .. هَدهَـدَتهُ شمسٌ مُتَبَرِّجَـةٌ ..
غَطّتـه بلحافِهـا ، فنـامَ كرضيـعٍ شَبِع علـى صـدرِ أُمّـهِ ..

صـامِتَيْنِ إفتَرَشا العُشبَ ، ثالثهمـا ظِـلُّ ..
راحَ يُنقِّـلُ نَبضَـه بيـنَ المـاءِ ودَنْـدَنَـةٍ ، لا يَعرِفُ كيفَ إلـى خاطِـرِه تَسلَّلَتْ ..
رمـى حَجَـراً علـى جبهـةِ المـاء ... غـاصَ الحَجَـرُ !
أَلحَقَـه بثانٍ ، فما شَهِدَ مصيـراً آخَـرَ ..
سَـدَّ نوافِـذَ الكـلامِ .. يبحثُ عـنْ رقـائقَ يُطَـوِّحُ بهـا على صفحـةِ المـاءِ ،
يَقيسُ بِهـا المسـافَةَ بينَ حَذَقِ الطفـولَـةِ وتَكَلُّسِ الشيخوخـة ..
مَـدَّتْ يَدَهـا إلـى كَتِفِـه .."مالَكَ ..؟! لماذا تَتَشاغَلُ عنّـي .. ؟! "
...................................
...................................

" هِـيَ دورَةُ الأشـياءِ ، ليسَ إلاّ .. ! " قالهـا مُتهيّبَـاً أنْ يُـدرِكَ الصمتُ غايتَـه ، فيتَكَسَّرَ خَزَفُ الـوصلِ فـي حضـرةِ المـاء ..

مـراكِبُ بلا أشرعَـةٍ .. البحيـرةُ تغرَقُ فـي سكونٍ يَبتهـلُ لِنأمَـةٍ ،
سكونٌ داكِـنٌ يَنهَـرُ اللغـةَ ،
الصمتُ يِمضغُ الأبجديَّـةُ بكَسَلٍ ، يُراقبُ سربـاً من الذكريـاتِ يَمُـرُّ مُتَمَهِّـلاً ..
كلُّ شيءٍ هـاديءٌ ..!
كأَنَّ رِتاجاً غليظاً أَغلَقَ فمَـه ، صـارَ لسانه ثقيلاً ، مثلَ حجَـرٍ ..
هَـرَباً من وحشتِه، مُستلقياً على العشب ، تَشاغَلَ بمراقبـةِ قطيـعٍ من غَنَـمِ السحاب ، مُبَعثَـرٍ يسعى لإصطبلـه فـي طـرَفِ السماء ..
كالخِـرقَـةِ ، خَلَـعَ ظِلَّـه ، ألقـاه للمـاء .. ظَـلَّ ساكنـاً ، طافيـاً ،
كأنـه يمتطـي قِشَّـةً يابسةً ..

حَـلَّ أَوانُ البـوحِ ، يَطـرُدُ زَمَـنَ الوَجَـلِ .. يأكُـلُ الجـراحَ عـاريَةً ..
يسوطـه صـوبَ أسئلةٍ جـديدةٍ ، تُطَـوِّحُ للقمامـةِ بالرخـوِ المُترَهِّـلِ
من جاهـزِ الأجوبـةِ ..
حَـدّقَ فـي إِلتماعـةِ بَحـرِعينيهـا، دَفَـنَ وجهـَهُ في ليلِ شعرِهـا..
وأَطلَقَ زَفـرَةً حَـرّى :
.................................

ــ"آهٍ يا وَجَـعَ المـاءِ ..!! يخشاكَ قُـرصُ القَمَـرِ، يَتَمنّى أَنْ يبقـى طافيـاً ،
كزَهـرِ اللوتس حتى لا يَغـرَقَ فيذوبَ مثلَ حبَّـةِ دواء .. !
هـل تعرفيـنَ ، يا حُلوَتـي ، مـا هـو وَجَـعُ المـاء ؟!
عندمـا يَنشفُ الريـقُ ، ويتَصمّغُ باطِنُ الحَلقِ ، فتَتَيَبَّسُ الشفاهُ مثل خَشَبٍ ..
ولا تجدينَ شُربَـةَ ماء ..؟
تسمعينَ هديـرَهُ ، لأنّكِ فوقَ قَطْـعٍ جَبَليٍّ ، والنهـرُ بعيـدٌ...
فَـرَّ من مـدى الرصاصـةِ ، وتوارى أبعـدَ من سَـرابٍ .. ؟!
وجَعُ المـاءِ ، كانَ يُباغِتنـا أيضاً عندمـا يخطفُ النهـرُ واحـداً مِنّا ليكون عريساً للسعلاة، تلتهمـه بعـد زفافـه عليهـا .. فيظلُّ الأهـلُ والجيـرانُ يَذرعـونَ الشُطُوطَ ليـلاً بفوانيسِهم ، يقرَعـونَ الصواني وأغطيَـةَ القدورِ ، تَتْبَعُهـم مظاهـرةٌ من الصغارِ، يُرَدِّدون لازمَـةً لا يَملّـونَها جيئةً وغدواً [ يَحوتَه ، يا مَنحـوتَه .. هِـدِّي إبِنَّـه الغالـي .. وإنْ چانْ مَتهِدّينـه ، أَدُگلِچ بصينيـة .. ] (*)

كُنّـا إذا زَمْجَـرَ النهـرُ، وبالغِريَنِ طَفَـحَ .. نَنتَهِرُ ! لا نَقرَبـه ،إلاّ للتَباري ،
أَيُّنَـا أَمهَـر فـي رمي حَجَرٍ مُسَطَّحٍ يصـلُ إلى أبعَـدِ مسافةٍ على وجه المـاء قبلَ
أَن يَغطِسَ ..
وعندمـا يروقُ مِزاجُه وتصفـو "دخيلتُـه"، نهايـةَ الربيـعِ ، نلهـو معـه ..
نُسَيِّرُ "مَراكِبَ" مـن كَرَبِ النخيـلِ مُـزدانةً بالشموعِ .. ونَدلِـقُ طاساتٍ من الشعيرِ ، كرامَـةً لحصـانِ الخِضـرِ، نَسُدُّ العيون ، ونَضمُـرَ المستحيلَ من الأماني ،عَـلَّ الخِضـرَ
يُحقِّقُها في عُرسِ النهـرِ ذاك ..!
...............................

هـيَ دورةُ الأشياءِ ، كما تَريْنَ ، تأتي دون دعوة أو رجاء ..!! "

* * *
" لِمـاذا تشتري الحزنَ وهـذا مهرجـانٌ للطبيعةٍ والترَاخـي ، بِلا ثمَنٍ ؟
لكَ دارٌ، أو قـُلْ سقفٌ فوقَ رأسك ... غير مُشَرِّدٍ أنتَ ، فماذا .. ؟!"
إزدَرَدَتْ بقيَّةَ الإستِغرابِ ، كَـيْ لا تُخَدِّشَ أَناه ..

ــ " مُشرَّدُ الروحِ أنا .. مـاذا أفعَـلُ مع سَحَرَةٍ يقتحمـونَ خُلوَتـي ، يُنغِّصِـونَ عَلـيَّ تَسَلُلّي إلى سَكينَةِ المـاء ، مُلَفَّعاً بأقداريَ البسيطةِ ، وحَيرةٍ بَكماءَ ،
مثلَ تسبيحٍ خافِتٍ ..

...............................

فَـ - الـدارُ- ليسَت لِـي ..
وأَهلُهـا ليسَوا لِـي ..
ممنـوعٌ أَنْ أَصرخَ فيهـا ، إلاّ هَمساً !
وكـذا الشَفَقُ المُضرّجُ بالحُمرةِ ، ليسَ لِـي ..
أَتُراهُ يَنفَجِرُ إِنْ أدخَلتُهُ مملَكَةَ نَثْـريَ ، الـذي لِـيَ ..؟!
وهَلْ يحتَجُّ إِنْ أَلقيتُه فـي بئرٍ دَفَـنَ مـاءَهُ ..؟!
أَمْ تُـراه يتَفَتَّتُ مثلَ نُثارِ لا مرئـيٍّ ، فلا يُبقـي سوى شمعَةَ العتمَـةِ ؟!
............................

آهٍ يا عِقـرَ دارٍ ليسَ لِـي !
يـا هـدوءاً يُنـاكِدُني ، أمـا تَعِبتَ ؟!
تَعـالَ ، حُطَّ رَحلَكَ .. إِفرِشْ عباءتكَ عنـدي ..
منَ اليأسِ قَدْ شُفيتُ ، ومن تثاؤبِ الأمَلِ بُرِّئتُ ..
فلا تَخفْ ، لنْ أُصيبَكَ بعدوى!!
تعـالَ ! طاعنونَ في الفُضـولِ ، نُنصِتُ ، لِهَذَيانٍ ..
لِصَمَمِ مَصائرنا ..
عَلَّنـا نَظفَرُ بِسِرِّ الوهـمِ المِسخِ ، يَقودُ لعجائزَ تُمَشِّطُ شُعورَ الغوايَـةِ ...!"
.................................

"ولكـن ، أَينَ موقِعـي ، أَنا ، في حَطَبِ الكـلامِ هـذا ؟! " مُمتَعِضَةً أَلقَتِ السؤالَ ،
كَمَنْ يرمـي قِطّـاً بشحمَةٍ .

ــ " أَنتِ ؟!
صِدقاً! أَنتِ فاتِنَتـي ومُلهِمَتـي ..
فأفتحي الثـوبَ للصيفِ ، لـي ...
ودَعي الكناري، مُزركشاً بالضوءِ ، يُنَقِّـرُ عنـد شُبّاكِ الحَشَـا ما أشتهى ..
سأَغـزِلُ لكِ من حُرقَـةِ المُهجـةِ عِشقاً يُبَدِّدُ رَهبَـةَ الرَشَـا ،
فهـذا المـاءُ يعرفُنـا ونعرفُـه .. لا خـوفَ من ضيـاعٍ .. !
نَدَّعـي أَننـا فرسانُ التأقلُمِ ، ونُصَدِّقُ مـا ندَّعـي ..
لكنّنَا لا نَعرِفُ مـاذا نفعَـلُ إِنْ بنا وجَـعُ الحنينِ طَفَـحْ ..
فهَـلْ تَتَوبُ الجذورُ إلى أَرضهـا ؟
والديـارُ إلـى أَهلِهـا تَثـوبُ ؟!
وهَـلْ يَئـنُّ في منامِـهِ الصـدى شَوقـاً لِمَصدرهِ .. ؟
...........................




(*) صَوّرَ الخيالُ الشعبي العراقي الغريقَ على أنَّ كائناً خرافياً قميئاً جداً .. شعره من الشوك وله أثداءٌ مترهلة ممطوطة ، يُلقيها على ظهره ، يسكنُ الماءَ.. يسمّونه " السُعلاة " أو" الحوتة "، يخطفُ الصغار إلى عرينه ، عميقاً تحتَ سطح الماء .. تلتهم السعلاة الصغيرَ بعد أَنْ يتمَّ زفافه عليها .. يبدو أنَّ الخيال الإسطوري إبتدَعَ تلك الخرافة لردع الأطفال ، من الذين لايجيدون السباحة ، عن الإقتراب من الأنهار .. وإذا ما غَرقَ أحدهم ، يردّدُ أهله خلال البحثِ عنه عند الشاطيء ليلاً لازمةً تدعو السعلاة أو الحوتة إلى الإفراج عن المخطوف .. وإلاَّ سيواصلون إحداثَ ضجيجٍ يمنعُ السعلاة من النوم .. حتى تيأس وتطلقَ سراح أسيرها، جثةً طافيةً، لتخلُدَ بعدها إلى النوم ...!!
ثَمَّةَ أغنية عراقية خلَّدتْ هذه الأسطورة:[ مثلِ أُمْ وِلَدْ غَرگان،أَبرا الشرايع ... كِلمَنْ وِليفه وياه ، بَسْ وِلفي ضايع ]



 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter