|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  5  /  10 / 2021                                 يونس عاشور                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

محطات وإضاءات قيميّة في سرد سيرة نموذجيه (2)
"أهمية الوحدة والاتحاد وضابطة التعددية والاختلاف"

يونس عاشور *
(موقع الناس)

 بعد أن قدّم لهمُ النّصيحة وقال لهم عبارته الشهيرة " التجارب ليس لها غاية والعاقلُ منها في الزيادة ". قررَ صاحبنا وقتذاك الهجرة إلى مكانٍ آخر قاطعاً المسافات الطويلة في تلك الفيافي البعيدة حتّى وصلَ به المطاف إلى مدينةٍ تُدعى "مدينة السلام" فوفد إليها وفي نفسهِ غبطةٌ وسرور لقدومه هذه المدينة.

مدينة السلام هي المدينة التي مكثَ فيها صاحبنا لسنواتٍ عديدة وتعلّق بها وألِفَ أهلها فاتّخَذَ من إقامته منطلقاً للتبليغ وتوجيه الناس الذينَ تعرّفَ عليهم هناك فكان من حرصهِ ومحبّته لأهلها أن قدّم لهم النُّصْح والإرشاد وتوضيح المسلك الصحيح لمفهوم الأخلاق القائم على جماليات التعامل الخلاّق مع الآخر، حيثُ أنّ الأخلاق الإنسانية تعمل على ترويض النفس من الآثام الإنسانية التي ربما تنطلق من الذات الإنسانية التي لا تتسم بروح المعاني الإنسانية النبيلة كالفضيلة وغيرها من المفاهيم السلوكية والتربوية، من هنا كان اهتمام صاحبنا على أهل تلك المدينة أن عمل على إشاعة مفهوم منطق التآلف والتراحم الإنساني والأخلاقي حيث كان له دوراً بالغاً وجلياً في هذا السياق التبليغي والتوجيهي المعنوي، ومن الأمور الهامة التي حرص عليها أيضا تفعيل دور الوحدة والاتحاد وضابطة التعددية والاختلاف الاجتماعي بين الجماعات والأفراد "فالوحدة تكمن في تفعيل اللقاء حول القضايا المشتركة، لأنها الكفيل بتطوير مستوى مفهوم الوحدة نحو الوحدة الحقيقية والصلبة، لا يمكن أن تعيش إلا في ظل الاختلاف المشروع، لأنه يغْني مفهوم الوحدة ويمدّه بأسباب الحيوية والفعّالية، ويؤسّس لوقائع وحقائق جديدة تحول دون تقهقر المفهوم الوحدوي على مستوى الواقع.

فالاختلافات الفكرية والمعرفية والثقافية ينبغي ألا تدفع بالانسان إلى القطيعة واصطناع الحواجز التي تحول دون التواصل والتعاون والحوار مع الآخر.

نحن بحاجة دائماً إلى منهجية حضارية في التعامل مع الاختلافات والتنوعات، حتى يؤتي هذا التنّوع ثماره على مستوى التعاون والتعاضد والوحدة.. والمنهجية الأخلاقية والحضارية الناظمة والضابطة للاختلافات الداخلية، قوامها الحوار والتسامح وتنمية المشتركات والتصالح وحسن الظن والاحترام المتبادل ومساواة الآخر بالذات. هذه المنهجية هي التي تطوّر مساحات التعاون وحقائق الوحدة في الواقع الخارجي.."(1)

وإذا استدعينا مفهوم "الاتحاد" وجعلناه جنباً إلى جنب مفهوم الوحدة على أرض الواقع وترجمناه عملياً بيننا آنئذٍ يتكامل المفهوم بمعانيه الفلسفية ويتلاشى الشقاق والاختلاف لأنّ الاتحاد في مضامينه هو "ذوبان الكيانين أو الأكثر في كيان واحد، بحيث يكون الجميع شأناً واحداً سرّاء وضرّاء، تطوراً ونماء، قوةً ووفاء، ولاءً وعطاء بسخاء.. فلا تبقى خصوصية لأحد في نفسهِ إلا في الأمور الخاصة، فهذا هو الاتحاد الذي يكون قوة، ويكون فخراً، ويثمر تطوراً وأمناً وسعادة".(2) بدلاً من الفرقة والشقاق أو الاختلاف الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى عواقب وخيمة لا تُحمد عقباها، من هنا تجلّت حكمة وصوابية وسياسة صاحبنا في جعل ذلك المجتمع مجتمعاً مبنياً على قاعدة الوحدة والاتحاد حيث التطور والنماء والولاء لأهدافه ومنطقاته وغاياته الكبرى التي تحقق لهُ العيش الرغيد والهناء السعيد في مختلف الصّعد الحياتية.

لقد انصبّت جلّ اهتماماته آنذاك في إلقاء الخطب والمحاضرات والتحدّث بالمواعظ والحكم والاستشهادات التاريخية من أجل تقريب الأفكار العملية إلى الأذهان وخاصة على صعيد القرارات التوجيهية الصائبة والاعتبارات الأخلاقية الهادفة حول طرح مفهوم الوحدة والاتحاد بين الناس لما له من تأثير في مواجهة التحديات الحياتية المختلفة لأن ذلك يساعد على تحقيق إحراز التقدم والنجاح في شؤون الحياة كما يساعد على تقويض الصراعات والنزاعات الاجتماعية والحزبية والفئوية التي تُدَمِّرْ كيان المجتمع.

إن ما يفكّر به الأعداء في عالم اليوم هو السعي لخلق هوة بين المجتمعات وجعلهم في حالة من التفكيك والتباعد الاجتماعي وتقسيمهم إلى كيانات وكانتونات متناحرة مع بعضها البعض ومن ثمّةَ إيجاد الانقسام الطبقي والمجتمعي الذي قد يؤثر على اتصال المتجمع ببعضه البعض وإذا حصل الانفصال وعدم الاتصال لا سمح الله فإنّ المتربّصون يسهل عليهم تخريب وتدمير بنية المجتمع بناءً على الظروف والأسباب التي تساعدهم في الدخول على المجتمعات الهشة واستغلال ضعفها وهشاشتها الفكرية والثقافية والاجتماعية.

وما أحوجنا في مثل هذه الأيام إلى تفعيل مفهوم الوحدة والاتحاد الاجتماعي فيما بيننا لكي نفوّت الفرصة التي قد تكون سانحة للأعداء في أي ظرف من الظروف ولا شك أنّ الوعي الجماهيري الناضِج المبني على أسس العقلانيات الواعية لمخاطر الأعداء وأغراضهم السيئة التي تقوم على المصالح ونهب الخيرات والثروات من المجتمعات هو الذي يقف حائلاً بينه وبين المتربصين بالمكائد والدسائس المغرضة.

لقد كانت هذه المفاهيم حاضرة في فكر صاحبنا حينما استقرّ به المطاف في "مدينة السلام" وبالفعل لقد تأثّر به معظم الناس وبأقواله العلمية الرصينة التي كانت تؤتي ثمارها في أوساط المجتمع آنذاك – لقد تحول ذلك المجتمع من مجتمع الأشخاص والأقوال إلى مجتمع الأعمال والأفعال الحقيقة المبنية على أساس التوجيهات العقلانية السليمة والتي عملت على توحيد أهدافه ومنطلقاته، ذلكم هو المجتمع الراشد الذي يعي مفاهيم النهضة والتطور والسمو فلا تكون له دوافع مصلحيه تدفعه باتجاه الخروج من دائرة المصلحة العامة.

وبعد مضي سنوات وما آلت إليه الأمور من تدهور على المستوى العلمي والاقتصادي في مدينة السلام ظهر فيها أشخاصٌ مناوئون لفكر "صاحبنا" فكانوا يعملون على نشر الدعايات السلبية اتجاه شخصيته ومكانته العلمية والقيام بمحاولة إبعاد الناس عنه وإسكات الصوت الذي يتحدث عن صفاته وسماته النموذجية.

لقد كثرت واستشرت الأحاديث المغرضة في الآونة الأخيرة اتجاه شخصه ومقامه وقد وصل الأمر بالمغرضين إلى إقصائه وإبعاده عن المدينة والعمل على نشر الدعايات التي تؤدي إلى تشويه شخصيته وهذا ما ينطبق على واقعنا المعاصر اليوم، فترى البعض يعمل على تشويه صورة الآخر لا لشيء إلاّ لأنه ذو كفاءة علمية بارزة وله نشاط وفاعلية وحضور جماهيري متواصل على الصعيد الاجتماعي.

عندما استشعر صاحبنا هذا الخطر المحدق به، قرر المغادرة والهجرة ليلاً من المدينة خوفاً على نفسه ومن تصفيته جسدياً وبالفعل خرج خائفاً يترقّب من مكر الماكرين وكيد الحاسدين، واستطاع السفر ليلاً دون علم أحد من الناس حتى المقربين منه لم يكونوا على دراية من أمره فقد فاجأهم بنبأ مغادرته، وعندما قصدوه للزيارة في اليوم التالي تفاجئوا باختفائه وعدم وجوده وقد سألوا عنه في كل مكان فلم يجدوا له أثرا.

لقد أسِفَ الناس عليه فيما بعد عندما علموا بخروجهِ من تلك المدينة لأنه في اعتبارهم يشكّل مكسباً علمياً كبيراً لهم فيستفيدون منه في مكتسبات التوجيه والإرشاد وأخذ المشورة والانقياد لمواعظه وحكمه، وممّن تفاجأ من هروبه أيضا مناوئوه وأعدائه مما قد أصابتهم الخيبة والفشل، لكنّ صاحبنا خَرَجَ من حيث لا يعلم الجميع بأمره مخلّفاً لمحبيه وأنصاره تركةً علميةً وفكرية وأخلاقيةً في شؤون الحياة.


هوامش
(1) الأستاذ محمد محفوظ / في معنى الوحدة والاختلاف - صحيفة الرياض الثلاثاء 14 جمادى الأولى1426هـ-21 يونيو2005م العدد 13511.
(2) مفهوم الاتحاد للدكتور أحمد عبدالعزيز الحداد – صحيفة الإمارات اليوم الالكترونية.

 

* كاتب وأكاديمي فلسفي
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter