|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  29  /  11 / 2021                                 يونس عاشور                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

محطات وإضاءات قيميّة في سرد سيرة نموذجيه (4)
في ماهية المعنى الفلسفي والأخلاقي لمفهوم "المدنيّة"

يونس عاشور *
(موقع الناس)

بَعدمَا قَرّرَ صَاحبنا الهِجرة إلى موطنٍ آخر بِسَبَبْ التهديد والوعيد الذي كانَ قد تعرّضَ لهُ من قبلِ أعدائه ومناوئيه سارعَ صاحبنا بالفرار ليْلاً من المدينةِ بسريّةٍ تامّة لضمان حياته والنجاة بنفسهِ، وبالفعل غَادَرَ المدينة بعيداً عن الأنظارِ لكيلا يبصرَ به أحد من الناس.
خَرَجَ صاحبنا ليلاً يتحيّنُ الفرصْ لتخطّي الصِّعَابْ الجِسَامْ وقد تخطّاها واجتازها بسلام دون حدوث أي ضرر على حياته، فكان بهِ أنْ حلّ في "مدينة الصّمت".

مدينة الصمت هي إحدى المدن التي تتميز بوجود عامل الأمن والاستقرار كما أنها توفّر المقومات الرئيسية للحياة الإنسانية كالعيش الرغيد الذي يضمن إعطاء كامل الحقوق والحريات للإنسان بما في ذلك ضمان وسلامة وأمن حياة الإنسان سواءً الذي يقصد هذه المدينة أو الذي يقطنُ فيها، في مدينة الصّمت يخضع الجميع إلى الدستور والقانون كما يتمتع أهلها بالتساوي من حيث توزيع الحقوق بينهم فليس ثمة فرق بين كبيرٍ أو صغير أو غنيٍ وفقير أو متعلّم وجاهل فكلهم سواسية يخضعون لمنطق العدل والمساواة وهذه المفردات هي نموذج المدنية الحضارية الأخلاقية التي تقوم على الدستور واحترام خصوصيات الناس، فهي تُشكّل الهدف والمبتغى والمحتوى لمعاني ومفردات دولة الحق والقانون، من هنا فإنّ صاحِبَنَا قَصَدَ هذه المدينة لكي ينعم بخيراتها وعدلها المتمثل في إمكانية ممارسة الحياة بشكلٍ طبيعي وبدون أي إقصاء أو توجّس أو انتهاك للحق الإنساني الذي يكمن في اكتساب مقومات الحياة الطبيعية.

يتميز أهل هذه المدينة بأنهم أناس حِرَفِيُّونْ يعتمدون على أنفُسهمْ ويَعْمَلونَ شتّى الأعمال اليدوية كما أنهم يعتمدون في صناعة الأشياء على قدراتهم الذاتية والفنية التي يلجأون إليها ويصنعونَ الأشياءَ من خلال خبراتهم المتواضعة وخاصة عند كبار السن الذين يقضون جل أوقاتهم في الأعمال اليدوية وهذا إنما يدل على التفاني في العمل والاندفاع نحو الانجاز وعدم التقاعس أو إضاعة الوقت فيما لا فائدة منه هكذا هم أهل هذه المدينة اعتادوا على العمل بجدٍّ واجتهاد والمضي قدما نحو إنجاز الأعمال المختلفة حتى يدفعوا بمدينتهم نحو التطوير والتقدم والازدهار في جميع مجالات الحياة العملية والثقافية والمعرفية من خلال تكريس حالة حب العمل والدأب نحو النهوض بتنمية الإنسان على أساس مفهوم السلم الاجتماعي والأمن الاجتماعي الذي يكرّس حالة الاستقرار الذاتي للإنسان وبالتالي إيجاد مقومات وبنيات راشدة تدفع بالإنسان نحو الديمومة والاستمرار في التواصل نحو حب العمل الجاد والذي يعود بالمنفعة الايجابية العامة على الجميع، من هنا نحن بحاجة إلى خلق مثل هذه المفاهيم حتى نستطيع من خلال ذلك تجاوز العقبات والأزمات في حياتنا المعاصرة.

يِغْلِبُ على أهلِ هذهِ المدينة البَسَاطَة وصفاء النفوس وتجلي الأخلاق الحميدة في كيفية فن التعامل الأخوي الراقي المنبثق من سيكولوجيا الأخلاق التي تعمل على إيجاد الألفة والتسامح والتصالح الاجتماعي الذي يكمن في حُسن الجوار والابتعاد عن الفتن الطائفية والمذهبية والقبلية، بالكاد أن تسمع عن قضيةٍ هنا وهناك في مدينة الصمت وإذا قُدّرَ لها أن تقع فهي ضمن المحدودية الغير قابلة للاستفحال والانتشار كل ذلك بسبب تحكيم العقل على المنطق والابتعاد عن الأنوية الذاتية.

إنّ أهم مقوّم من مقومات "مفهوم المدنيّة" هو إيجاد مفهوم التصالح والتسامح والتعايش والتآلف الأخوي فيما بين النّاس فلا يبغض أحدٌ أحدا ولا يفتّشُ كلّ أحد عن خصوصيات الآخر ، لأن ذلك يدفع بالجميع نحو الانشغال في مفهوم التطوير والتغيير الايجابي لإحداث التنمية الشاملة التي تؤطر المدنية بمفهوم الرقي والنهوض ومحاربة شتى الأمور الرجعية والتي من شأنها أن تحدث خللاً في تركيبة البنية الأساسية لمفهوم المدنية.

وما دام الحديث يتمحور حول مفهوم ومعنى "المدنية" الذي يكون مدخلاً للدولة المدنية بالتعريف الفلسفي والأخلاقي فلا بأس أن نحاول قدر الإمكان التطرق إلى هذا المعنى من منظور فلسفي وأخلاقي كما تناوله الكتّاب والمفكرون.

"ظهرت فكرة المدنية أو الدولة المدنية عبر محاولات فلاسفة التنوير تهيئة الأرض ــ فكريا ــ لنشأة دولة حديثة تقوم على مبادئ المساواة وترعى الحقوق، وتنطلق من قيمٍ أخلاقية.. ولقد تبلورت فكرة الدولة المدنية عبر إسهامات لاحقة ومتعددة من مصادر علمية مختلفة في علم الاجتماع.

ولكي يبلور المفكرون طبيعة الدولة الجديدة لجئوا إلى تصوير حالة الطبيعة التي تقوم على الفوضى وعلى طغيان الأقوى. فهذه الحالة تحكمها مشاعر القوة والغضب والسيطرة فتفقد الروح المدنية التي تتّسم بالتّسامح والتّصالح والتّساند والتّعاضد من أجل العيش المشترك الهادف.

إن تأسيس دولة مدنية هو كفيل بسيادة هذه الروح التي تمنعُ الناس من الاعتداءِ على بعضهم البعض من خلال تأسيس أجهزة قانونية خارجة عن تأثير القوى والنزعات الفردية أو المذهبية، تستطيع أن تنظم الحياة العامة وتحمي الملكية الخاصة، وتنظم شؤون التعاقد، وأن تطّبق القانون على جميع الناس بصرف النظر عن مكانتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم.

وإذ تتأسس الدولة المدنية على هذا النحو فإنها تصبح دولة توصف بأوصاف كثيرة من أولها أنها دولة قانون. فالدولة المدنية تعرف على أنها اتحادٌ من أفرادٍ يعيشونَ في مجتمعٍ يخضعُ لنظامٍ من القوانين، مع وجود قضاء يطبّقُ هذه القوانين بإرساء مبادئ العدل. فمن الشروط الأساسية في قيام الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فثمّة دائما سلطة عليا هي سلطة الدولة العقلانية المدنيّة حيث يلجأ إليها الأفراد عندما تُنتهك حقوقهم أو تتعرض للانتهاك.

هذه السلطة هي التي تُطبّق القانون وتَحْفَظ الحقُوق لكل الأطراف والأصْنَاف، وتَمْنَع الأطراف من أن يطبّقوا أشكالَ العقاب بأنفسهم. ومن ثمّ فأنها تجعل من القانون أداة تقف فوق الأفراد جميعا.

ومن خصائص الدولة المدنية أنها تتأسس على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، والثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة. إن هذه القيم هي التي تشكل ما يطلق عليه "الثقافة المدنية"، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق؛ أي وجود حد أدنى من القواعد التي تشكل خطوطا حمراء لا يجب تجاوزها، على رأسها احترام القانون (وهو يشكّل القواعد المكتوبة). وتأتى بعده قواعد عرفية عديدة غير مكتوبة تشكل بنية الحياة اليومية للناس، تحدد لهم صور التبادل القائم على النظام لا الفوضى، وعلى السلام لا العنف، وعلى العيش المشترك لا العيش الفردي، وعلى القيم الإنسانية العامة لا على القيم الفردية أو النزعات المتطرفة.

ومن ثم فإن الدولة المدنية لا تستقيم ألا بشرط ثالث هو المواطنة. ويتعلق هذا الشرط بتعريف الفرد الذي يعيش على أرض هذه الدولة. فهذا الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين. فإذا كان القانون يؤسس في الدولة المدنية قيمة العدل، وإذا كانت الثقافة المدنية تؤسس فيها قيمة السلام الاجتماعي، فإن المواطنة تؤسس في الدولة المدنية قيمة المساواة.
فالمواطنون يتساوون أمام القانون ولكل منهم حقوق وعليه التزامات تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه.
والمواطنون هنا لا يجب أن يعيشوا كمواطنين لا مبالين، بل يجب أن يكون جلّهم من المواطنين النشطاء الذين يعرفون حقوقهم وواجباتهم جيّدا، ويشاركون مشاركة فعّالة في تحسين أحوال مجتمعهم بحيث يرقون بمدنيتهم على نحو دائم، ويخلصون إخلاصا كبيرا لكل ما هو «عام»: الصالح العام، والملكية العامة، والمبادئ العامة. فهم يحرصون دائما على كل ما يتّصل بالخير العام".(1)

وأخيرا، فإذا كانت هذه هي أركان الدولة المدنية فحريٌّ بنا تدارس أهدافها ومضامينها التكاملية التي تساند احتياجات الإنسان نحو خلق بيئة تحقق له متطلبات الحياة الكريمة التي تكمن في إيجاد منظومة متكاملة من القيم الأخلاقية والعقلانية تكاد تكون هي منظومة الحياة.
نعود إلى قصة صاحبنا بعد أن بينا مفهوم المدنيّة من الناحية الفلسفية والأخلاقية.
لقد وَفَدَ صَاحِبُنَا على مدينةِ الصمت ليستقرّ به المقام هناك لعدة سنوات وقد استطاع من خلال إقامته ممارسة حياته الطبيعية وتحقيق هدفه المنشود من خلال المشاركة مع أهل مدينة الصمت في أمورهم الحياتية.
عندما رآه أحدهم قادماً إلى المدينة ، وكان يُكنّى "بأبي محمد"، سأله: من أين أنت يا هذا..؟
فقال صاحبنا: أنا من أهلِ "مدينة السلام" قدمت للتّو إلى هنا لطلب العيش والاستقرار في هذه المدينة "مدينة الصمت".

فقال له أبا محمد: تفضّل على الرّحب والسعة.
فقال صاحبنا لأبي محمد : هل بإمكانك أن تدلني على مكانٍ متواضع أرتّب فيه حاجاتي ومستلزماتي للإقامة فيه.
أبا محمد: نعم، لمَ لا تقيم معي فثمة غرفة في مسكني لا حاجة لي بها تستطيع أن تقيم فيها ولا عليك من الأعباء المادية فلن أطالبك بدفع أي مبلغٍ مالي مقابل إقامتك معي، فنحن نتشرف بإيوائك معنا ويبدو أنك إنسان طيب.
فقال صاحبنا: أشكرك على إسداء هذه الخدمة الإنسانية لي وهذا إنما يدل على شيمكم وأصالتكم الطيبة يا أهل مدينة الصمت.
أبا محمد: إذن هيا بنا نحو مسكني.!
أبا محمد أريد أن أسألك سؤالاً ؟
لم تركت مدينتك وأتيت إلى هنا؟
صاحبنا واجهت بعض المصاعب هناك اضطررت بسببها إلى مغادرة مدينة السلام لكي أنجو بنفسي من التهلكة.!
فتعجب أبا محمد من قول صاحبنا وقال له: وكيف قد تعرضت إلى ذلك.؟
فقال له صاحبنا: تعرضت إلى الإيذاء من أناس تحكمهم النفس الشيطانية وحبّ الأنا وعدم الاكتراث بمنطق وفهم الآخر..!
أبا محمد : وهل صنعت شيئاً ما حتى تلقي كل هذه المضايقات؟
صاحبنا: لم افعل شيء سوى إنني كنت أوضح مفاهيم ومنطلقات إرساء المدنية العقلانية في الواقع الاجتماعي وكيفية تطبيقه ونهجه لتحقيق التقدم والرقي الاجتماعي الذي يتضمن معاني الأخلاق والسلوك الرفيعة التي يقتضي على الإنسان أن ينتهجها في حياته حتى يتسنى له تحقيق مفاهيم النهضة والتقدم والتي من شأنها الدفع به نحو الرفعة والعزة والمكانة الاجتماعية المرموقة بين الآخرين.
ورغم أنني قد وضّحت هذه المفاهيم إلا أنّ جملة من الناس لم يستوعبوا هذه المفاهيم ولم يتقبلوها.
فعمدوا إلى مضايقتي وملاحقتي التي تسببت في إيذائي..!
أبا محمد لصاحبنا : وماذا صنعت في نهاية المطاف معهم؟
صاحبنا: اضطررت إلى الهجرة خوفاً على نفسي من الإيذاء والتصفية الجسدية. وهانئذا الآن في هذه المدينة حيث جئت إليها لكي استقرَّ فيها وانعم بخيراتها.

وبعد أن رتّب صاحبنا أوراقه بدأ يفكر في وضع جدول زمني يمارس من خلاله منهج التغيير والتطوير الأمثل للواقع المعاش في مدينة الصّمت واستقطاب أهلها إليه عبر بث المفاهيم العقلانية والقيمية من أجل القيام بتغيير جذري للمفاهيم العتيقة التي تتطلب إحداث تطوير وارتقاء على جميع الصعد، فبدأ ينصح من يواجهه بالتي هي أحسن والابتعاد عن المجادلات العقيمة والعداوات والمناوآت التي لا تجدي نفعاً مع الآخر فالطريقة المثلى في التبليغ والنصح والإرشاد هي الطريقة العقلانية التي تقوم على العقل والمنطق واستخدام منهج الأسلوبية الموضوعية المحبّب والغير المنفّر.

إن فرض مفهوم القوة في الجانب التبليغي لهو أمر خاطئ حيث لا يكون له قابلية تأثيرية لاستقطاب الطرف الآخر لأن ذلك ينطلق من ممارسة القهر والقسر الجبري على الآخرين وبالتالي ينفّرهم ويعمل على تفريقهم وتشتيتهم.

لقد استخدم صاحبنا هذه المرة أسلوبا إبداعيا جديداً في كيفية ممارسة التبليغ والترشيد مفاده الدعوة على أساس العقل والمنطق والحكمة الفلسفية البالغة التي تقود إلى الهداية والرشاد والتقويم الصحيح الذي يستند على القياس والأمْثَلة لمفاهيم العقل الناصح والراشد.



(1)
" في تعريف مفهوم الدولة المدنية" بقلم الأستاذ / الدكتور أحمد عبد الله زايد أستاذ علم الاجتماع السياسي وعميد كلية الآداب بجامعة القاهرة – صحيفة الشروق السبت 26 فبراير 2011.

 

* كاتب وأكاديمي فلسفي
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter