|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  21  /  2 / 2022                                 يونس عاشور                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

محطات وإضاءات قيميّة في سرد سيرة نموذجيه (8)
كبار السن: الخصائص والوظائف الاجتماعية ورد القيمة الاعتبارية لها.

يونس عاشور *
(موقع الناس)

رَغْمَ تقدّم عُمُر ذلك الرجل الكاهِل الذي قد تعرّف عليهِ صاحبنا إلاّ أنّه كانَ يَتَمَتّعُ بنوعٍ من الوعي الأخلاقي بما في ذلكَ حذاقته ولباقتهِ في أصول الحوار ومهارة تداول الكلام وإتصافه بالجانب العلمي والمعرفي، وتلك السمات والخصائص الشخصية والذهنية هي التي ترجمت حضورها الذاتي لصاحبنا عندما تعرّف على ذلكَ الرجل المُسن عن قرب والخوض معهُ في موضوعاتٍ شتّى، علماً بأنّ خصيصة الجانب العلمي والمعرفي تقل مفاعيلها عند كبار السّن إلا أنّ بعضهم تتوفر لديه ملكة وخاصية خاصةً ذلك بسبب المعطيات السابقة والقواعد العلمية التي قد غرسوها في عقولهم منذ بدء الدخول في معترك طلب العلوم والمعارف حيث تستمر هذه العطاءات معهم إلى زمنٍ طويل ومتقدم وقد يُلاحظ هذا الجانب لدى كبار السن ممن هم قد خاضوا تجارب الحياة لأجل اكتساب العلوم الإنسانية المختلفة.

سَنُحَاوِل في هذه الحَلَقَةِ التركيز على قيمةٍ أساسيةٍ في خصائص حياة كِبَارِ السّن وممّن تقدّم بهم العمر وأمضوا سنين عديدة في خدمة أسرهم ومجتمعهم وأوطانهم ولم يعد بمقدورهم فيما بعد مزاولة الأعمال المختلفة كما لو كانوا في مرحلةِ الشباب والحيوية والنشاط البدني الذي يتّسم بالقدرة على العطاء والإنتاج والفاعلية في الأداء العملي المتواصل، كما سنحاول أيضاً التطرق إلى المبادئ والحقوق والواجبات اتجاه هؤلاء المسنّين الذين قد نذروا أنفسهم في مستهلِّ حياتهم لخدمة القضايا الأساسية والإنسانية التي تتشكل منها الشخصية السوية من أجل إيلاء قيمة مركزية تتمثل في بناء الفرد والأسرة والمجتمع على أساس التربية الصالحة التي تعكس مبادئها وأهدافها الإيجابية، ومن ثمةَ الدفع بها نحو التكامل الإنساني، ولأنّ كبار السّن دائماً ما يتطلعون في خضّم حياتهم نحو التركيز على الجوانب التربوية المختلفة التي تحثّ الأجيال على التحلّي بالوعي الأخلاقي هذا عدا حثهم أيضاً للآخرين على مزاولة الأعمال المستديمة التي تضمن تحقيق كامل النتائج العملاتية المرجوة عبر الجهود الحثيثة من خلال تقديم النصائح والتوجيهات الرشيدة وبالتالي عدم الخنوع والاستسلام لتحديات الحياة. من هنا فإنهم أي " كبار السن" يشكلون القاعدة المحورية والجوهرية لعملية التحفيز والتركيز على النقاط الأساسية في كيفية بناء الفرد والأسرة والمجتمع عبر تقديم كافة التجارب والخبرات المبنية على التطلعات المسبقة حيث تكون منطلقاً للتصويب نحو تحقيق التقدم والنجاح وهذا ما هو ملموس خاصةً من النخب الفكرية المتقدمة في السّن التي لها تجارب وعطاءات علمية ومعرفية عديدة في شؤون الحياة حيث أنهم يشكلون المركزية الاستشارية الصحيحة لتحقيق منطلق الحقيقة التي تعتمد على مرجعيات موثوقة وذات تجارب علمية مرموقة من حيث الطرح والأسلوب في التطبيق الناجح والمسبق، ونحن نلمس هذا الجانب لدى المؤسسات والشركات أو الهيئات والأكاديميات في وقتنا الراهن حيث أنها دائماً ما تلجأ وتبحث عن هؤلاء الصنف من الناس للاستفادة من خبراتهم وتجاربهم الميدانية والتراكمية التي تحدد الرؤية الثاقبة للوصول إلى الهدف المنشود والمبتغى تحقيقه على أرض الواقع، وبالطبع فإنّ هذا التأثير المباشر من قبل هؤلاء الشريحة النخبوية يُعطي حافزاً بنيوياً لدى الأجيال المعاصرة التي تتطلع إلى تكوين وبناء معالم مستقبلها على ضوء المعطيات السابقة والناجحة والمتقدمة واللاحقة، وكم نحن بحاجة إلى مثل هؤلاء الشرائح أي النخب الفكرية التي لها تجارب في الحياة لكي نستطيع أن نكمل حلقة الوصل المفقودة بيننا وبين سائر المجتمعات المتقدمة علمياً وحضارياً.

وبالرغم من أنّ كبار السن غالباً ما يميلونَ إلى الرّاحَةِ والاكتفاء بالقدرِ الذي قد اكتسبوهُ في حياتهم إلا أنّ عقولهم تبقى قيد الإنتاج والتشغيل الفكري المتشعّب فهم بمثابة المصدر والمرجع لأخذ المشورة منهم خاصةً إذا كانوا على قدرٍ عالٍ من المعارف والعلوم الإنسانية.

كبار السّن عادةً ما يكونون في موضع إجلال وتقدير واحترام وتبجيل وبالتالي فإنّ كثيراً من الناسِ يتعاملونَ معهم على أساس الثقة والعلاقة المتبادلة التي تقوم على منطق الأخلاق والإيفاء بالوعود التي تتضمن عدم الشكوك في الاعتقاد بالشخصية الناجحة والنوايا الحسنة التي تنطلق من أعمال الشخص الموثوق به ذو الخبرة والتجربة العالية وبالتالي فإن الترجمة الفورية للأعمال الخيّرة هي ما يقدمه هؤلاء من عطاءات وإملاءات هدفية فتكون بمثابة ما يلمسه الطرف الآخر ويستشعره منهم باعتبارهم من يتصدّر الطليعة لتبني وإيجاد حلولاً صحيحة لمعالجة القضايا الشائكة التي قد تجتاح الأسر والمجتمعات في أي وقتٍ كان وهنا تكمن أيضاً أهمية وجاهتهم الاجتماعية عندما تكون متلبّسةً بالمقام التقدمي للعمر الزمني لأنها تعطي قيميةً اعتبارية في شخصية الإنسان لتجعل تأثيرها مباشراً على الناس ويشهد على ذلك عامل الأفضلية والأهليّة في تسنّمهم لمنصب الوجاهة المجتمعية فهم واجهة المجتمع الذي يؤدي دوره ووظائفه الاجتماعية والإنسانية على أكمل وجه، كما أنهم يتّسمون عادةً بمبدأ الوعي الأخلاقي وروح التعامل الواعي مع الناس لأن تجاربهم في الحياة قد أعطتهم الكثير من الدروس والعبر مما يجعلهم يكتسبون صفاتاً وخصائص حسنة، وإذا كانت هذه السمات والخصائص تتجلى بمعانيها الايجابية والقيمية لنا فعلينا إعادة القيمة الاعتبارية لهم عبر تقديم منهج الاستقلالية الذي يكمن في حاجتهم للغذاء والماء والمأوى والملبس والرعاية الصحية، بأن يوفّر لهم مصدر للدخل ودعم أسري ومجتمعي ووسائل للعون الذاتي كتمكينهم من العيش في بيئات مأمونة وقابلة للتكييف بما يلائم ما يفضلونه شخصيا وقدراتهم المتغيرة لمواصلة الإقامة في منازلهم لأطول فترة ممكنة.

إن أهم حق ينبغي تقديمه لكبار السن هو جعلهم مندمجين اجتماعياً بحيث تتاح لهم المشاركة الفاعلة في صوغ وتنفيذ البرامج المؤثرة والتي يُستفاد منها في كيفية تقديم الحلول المفيدة للمشكلات المستعصية عبرة المشورة والنصيحة كما أسلفناه آنفاً وهذا هو التعامل المنصف بصرف النظر عن عمرهم أو نوع جنسهم أو خلفيتهم العرقية والقبلية أو غيرها بحيث يكونون في موضع التقدير الإنساني الذي يكفل تقديم الحق الطبيعي لهم وذلك إيذاناً بمساهماتهم التنموية والتعليمية والثقافية والأخلاقية ولعل هذا العامل هو الذي جعل صاحبنا يستأنس كثيراً مع ذلك الرجل المُسن الذي قد نشأت معه علاقة حميمة ووطيدة في ذلك المكان " الغابة " حيث تجلّت الأواصر الأخوية والرابطة الاجتماعية الوشيجة بينهما والتي تشكلّت إبان مرافقة صاحبنا لذلك الرجل المسن. وهذا ما جعل صاحبنا يأنس لذلك الرجل المُسن من خلال معاملته الحسنة له فلم ينفر أو يتضجّر منه بل كانت استضافتة له استضافه إنسانية واعتبارية.

وفي تلك الفترة الزمنية البسيطة، بينما هم يتباحثُونَ في موضوعاتٍ شتّى وإذا بأمطارٍ غزيرةٍ تهطلُ عليهما عواصف رعدية حيث كانت تضيء سماء الغابة! نَظَرا إليها الاثنان نَظْرَةَ تعجُّب لكنّهما سرعان ما عادا إلى حالتهما الطبيعيّة وقالا سُبحانَ الله مال هذه الأمطار تهطل بغزارةٍ ربما قد تُغرقنا مياهها الكثيفة الآتية من سماء هذه الدنيا وبالتالي ربما نكون ضَحَايا سيولٍ جارفة قد لا تُحمد عقباها.

وبعد فترة قصيرة وإذا بالأمطار والعواصف تهدأ وتتوقف، لقد هدأت الأشجار والنخيل، وبدأت الطيور تُغرّد بصوتها الجميل، فاستبشرا كلاهما خيرا وقد أقبل إليهما شخصاً طيِّب النّفس ضالّ الطريق فتوقّف هُنيئة عندَ ذلك المكان! وكان ذلك الرجل تائهاً، يرتدي عِمَامَةً بيضاء ورداءً أصفر فاتح اللون يمتطي فرساً هيئتهُ كأنهُ رجلٌ كاهن وقد وصلَ إلى مكان مأوى الشيخ المُسن واستُضيفَ فأُحسِنَ ضيافته أيضا من قِبلِ الشيخ المسن وصاحبنا، وبدأ إعْجَابه بهما يتنامى فقدّمَ لهما الشكر الجزيل وقال لهما هل لي بالجلوس معكما ليومِ غدٍ فأنا تائه بين مُفترق طرق منذُ يومين علّني أجدُ ضالتي هنا؟!
فقالا له على الرّحب والسّعة يا هذا.. تفضّل..!!
قال له "صاحبُنا هل ترغب بمرافقتنا نحو المسير فيما تبقّى من مشروعنا الذي قد كنّا تباحثنا فيه بشكل مُتّصل يهدف إلى صياغة المفاهيم التربوية والثقافية والفكرية ومن ثمّة تقويم ذلك المنهج برؤى قيمية وتكاملية تنطلق من أسس ومرتكزات جوهرية، ومن ثمةَ تحويلها إلى غايات عملية ممكنة تخدم قضايا الإنسان وتمكّنهُ من فكّ القيود والأغلال التي تكبّله لكي يكون له منهجاً يعمل على انطلاقته وتجديد فاعليته، فتعجّب ذلك الرجل التائه ولم يستوعب كلام صاحبنا في بداية الأمر..! إلا أنّه أخذ يفكر ويفكر في مغزى ذلك الكلام لكي يستوعبهُ على مستويات تدرجية..

إن صياغة المفاهيم تتخذ مناحي تحليلية تعتمد بالدرجة الأولية على الأسس المنطقية القابلة للاستقراء وذلك من خلال دراسة العوامل التي يقتضي أن تستوفيها تلك العلاقة القائمة على عملية الربط بين التجارب السابقة والخبرات النظرية المتلاحقة والمتراكمة كماً ونوعاً وكيفاً..!

 

* كاتب وأكاديمي فلسفي
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter