|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  20  /  12 / 2021                                 يونس عاشور                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

محطات وإضاءات قيميّة في سرد سيرة نموذجيه (6)
القواعد الفلسفية في مفاهيم الخطاب العقلاني.

يونس عاشور *
(موقع الناس)

بعدما تجلّت صفات صاحبنا الأخلاقية وخصائصه القيادية والعلمية لدى أهل "مدينة الصّمت" حَيْثُ عُرِفَ عَنْهُ السّمْتُ والوقارُ وحسنُ الأُلفة في الجوارُ واكتسابه لفنون النقاش والحوار العقلاني الرصين مع الطرف الآخر – إنه الآخر الذي نحن الآن نتواجد معه ضمنَ دوائر اجتماعية مختلفة أي غير مؤتلفة من حيث الأعراف والتوجهات حيث نواجه إشكاليات فكرية وعقدية متعددة معه مما يتسبّب ذلك في تضارب المصالح وقد يكون التعدّي على المبادئ والنأي عن التسامح والتصالح في القنوات الثقافية والفكرية أو المعرفية والفلسفية، وهذا الأمر يتطلب قاعدة فلسفية راشدة لتوجيه الخطاب العقلاني نحو الطرف الآخر بمفهوم فن التخاطب القائم على جماليات الخطاب العقلاني عن طريق التحلي بحُسنِ الاستماع والاهتمام بالمُتحدّث أكثر من الموضوع، وتجنّب مُقاطعة المُتكلم، والتعامل مع النّاس كما يُحبّ أن يعاملوه، والحرص على المُناقشة بدلاً من المُجادلة، وأن يكون الهدف الوصول إلى الحقيقة وليس الانتصار أو الرغبة في التميّز على الطرف الآخر في الحديث وذلك من أجل الاستناد على فهم قواعد فلسفية لعقلنة مفاهيم الخطاب الاجتماعي، ومن ثمةَ خلق حالة التعايش وقبول الآخر على قاعدة منطق الاحترام المتبادل بين الأفراد والمجتمعات والنابع من الكيفية النموذجية الخطابية التي يتلقاها الآخر من حيث تضمينها الأسلوب والحكمة أو حسن الطريقة في الموعظة ليتحقق بذلك الانسجام والانصهار الاجتماعي فيما بين الناس.

لقد كانَ لصاحبنا دوراً ملحوظاً في خلقِ تحولاتٍ وتفاعلاتٍ اجتماعية مؤثّرة في وسطِ أهل مدينة الصمت وقد تمثّل هذا الدور في خلقِ صياغةٍ فكريةٍ تربوية جديدة تعتمد على قواعد فلسفية من حيث منطق التخاطب والحوار الهادئ الذي يجعل من الآخر محط استقطاب لآرائك وأفكارك.

لقد أُعْجِبَ الجميع من أهلِ "مدينة الصمت" بشخصيته وتوافدوا عليه بالسّلام والتقدير لمكانته القيادية والعلميّة التي استهوت عقولهم وجعلتهم ينصاعون إليهِ وقد أجمعوا أمرهم فيما بعد على ترشيحه كوجيهٍ وكقائدٍ أعلى لإدارة شؤون حياتهم لِما كان يتمتّع به من أهلّيةٍ وجدارة في كيفيةِ فَهْمِ إدارة شؤون حياة الناس وكيفية استيعاب مشكلاتهم ومتطلباتهم الحياتية، يشهد على ذلك بصيرته ومعرفته للأمور ومدى علمه وحكمته البالغة في تشخيصه للواقع الاجتماعي والسياسي لأهل المدينة فهو كان دائماً سبّاقاً لمعالجة القضايا المصيرية التي كانت تُجَابِههم جرّاء المشكلات والتحديّات. فالمتجمع عادةً ما يكون عرضةً للحوادث والتحديات الخارجية التي غالباً ما تكون محطات ابتلاء للإنسان، من هنا يقتضي على الإنسان معرفة الحيثيات والمعطيات في كيفية التعامل مع الخلفيات والحيثيات التي قد تنجم من حدثٍ ما وما يترتب عليها من آثار سلبية، وإذا كان المجتمع يتمتّع بقوةِ وعيٍ تام حول إيجاد كيفية فاعلة أو اكتشاف طريقة مؤثرة لمجابهة القضايا المتعثرة فآنئذ يعتبر هذا النوع من المجتمعات مجتمعاً واعياً لأهدافه ومنطلقاته الفكرية.

إنّ يقظة المجتمع وبصيرته تُحَتّمُ عليه الحذر من الوقوع في المشكلات ويجب عليه مجابهتها بالعقل والحكمة حتى يتغلّبَ عليها وأنْ لا يكون طعماً سائغاً للغير ينجرف وراء الأهواء والمصالح وبالتالي يكون في مهب الرياح الجارفة التي قد تعصف به وتجعله في دائرة التفكيك والتشتّت.

لقد عُرض على صاحبنا منصباً هامّاً في بداية الأمر بأن يكون في مقام الرئاسة للمدينة ليصبح والياً على أهلها بسبب قدراته ومؤهلاته العلمية والمعرفية في الأمور الحياتية التي كانت تؤهله بأن يتسنّم المناصب والرُّتب العالية، لكنه رَفَضَ هذا العرض من قبلِ أهلها، لأنه كان يرى في نفسه بأن يبقى في موقع الاستشارية أي إعطاء التوجيهات والتعليمات ذات المنطلق العقلاني الذي يخدم المصلحة العامة للمجتمع فصاحبُنا لم يكن يتطلع في يوم من الأيام إلى تسنّم المناصب السياسية أو المواقع الدنيوية ليتقلّدها أو يتباهى بها للغير.

عندما أصرّ الجميع عليه بأن يتقدم لترشيح نفسه كرئيس للمدينة، قال لهم "صاحبنا" إني أنصحكم بممارسة فن الحوار والتخاطب فيما بينكم بالطريقة الموضوعية التي تخدم أهدافكم النبيلة وذلك من أجل تيسير أموركم الحياتية والوصول بها إلى عتبة التقدم والنجاح وحتى لا يكون هنالك تضارب في المصالح والمبادئ العامة فيما بينكم يقتضى عليكم التوجه نحو المشاركة في العمل الجمعي حتى تتمكنوا من رسم معالم خريطتكم المستقبلية التي تتمثل في استجلاب العيش الرغيد والهناء السعيد لكل فرد من أبناء مجتمعكم وأن لا يقتصر ذلك على فئة معينة بل يكون الجميع في حالة من الازدهار المعيشي.

لقد ركز صاحبنا في أقواله ومحاضراته على تفعيل مبدأ الحوار وتوظيفه بين الناس لما له من أهمية بالغة على الصعيد الحياتي فهو يمكّن الإنسان من فهم الآخر والتعايش معه والتعرّف عليه وعلى أفكاره وآراءه التي قد تكون هدفاً بنيوياً في تفعيل الأهداف المشتركة بين الأمم والمجتمعات.

وإذا كانت توجيهات صاحبنا قد تمحورت حول مفهوم القواعد والضوابط الأساسية لتفعيل مفاهيم الخطاب العقلاني وذلك ليكون مدخلاً إلى مبدأ توظيف الحوار فلا بأس أن نتطرق إلى أهمية هذا الجانب الذي يشكّل لبنة أساسية في دعم تقدم الأمم والمجتمعات الإنسانية في كثيرٍ من المجالاتِ الحياتية.

فحري بنا التعرّف على ماهية هذه القواعد والضوابط الأساسية لفن التخاطب وخلق تجاذب نحو الآخر بدراسة العناصر البنيوية لكيفية بناء ثقافة الإنسان بناءً علمياً، أما إذا لم يكن هنالك ثمة مفاهيم خطابية ننطلق منها في توجيه وبناء ثقافة الإنسان، فإننا لن نستطيع ردم الهوة التي تفصل بيننا وبين الآخر.

وبالرجوع إلى الدراسات الفلسفية والمنطقية لمكونات مفاهيم الخطاب العقلاني يتجلى لنا كيفية الانفتاح على الآخر بطرائق فلسفية محكمة تنبئ عن الوصول إلى معرفة الأصول ودراسة الفصول التراتبية لتأسيس ضوابط ننطلق منها عند التخاطب والتحّاور مع الآخر.

1- " قاعدتا كم الخبر:
• لتكن إفادتك المخاطب على قدر حاجته.
• لا تجعل إفادتك تتعدى القدر المطلوب.

2- قاعدتا كيف الخبر:
• لا تقل ما تعلم انه ليس صادقاً أو ما تعلم كذبة.
• لا تقل ما ليست لك عليه بينة أو دليل يثبت صدق قولك.

3- قاعدتا علاقة الخبر بمقتضى الحال:
• ليناسب مقالك مقامك، أو مناسبة الكلام للسياق الاستعمالي.

4- قواعد جهة الخبر:
• لتحترز من الالتباس.
• لتحترز من الإجمال.
• للتكلم بإيجاز.
• لترتب كلامك.

5- قاعدة التعفف : أو التأدب بالآداب العامة.
توجب هذه القاعدة على المخاطب إلا يستعمل من العبارات إلا بقدر ما يمكنه من حفظ المسافة بينه وبين المخاطب. وان لا يكون لك فرض على المخاطب.

6- قاعدة التودد":
وهذه القاعدة تنطلق من منطلق المعاملة بالمثل مستخدماً بذلك الأساليب والصيغ التي تقوى من أواصر التضامن والمحبة والانفتاح نحو الأخر.(1)
إلى غير ذلك من الصيغ التي نستطيع توليدها وتوظيفها واكتسابها من خلال فن التواصل مع الأخر.

ولقد أريد بهذه القواعد أن ترتقي إلى جعل اللغة والأداة خلق ذريعة نحو كيفية التواصل الخلاق بين الذوات ، وترتكز بصورة خاصة على القواعد التبليغية في الخطاب أكثر من إيلائها للقواعد الأخلاقية الخاصة بالتعامل الأخلاقي والإنساني أهمية . والمراد من طرح هذه القواعد والنظريات والأسس إنما هو تأسيس لضبط مفاهيم الخطاب العقلاني في الواقع المعاش وحتى يحصل تبادل الرمز وإدارة أسلوب الحياة بالتفاهم والتسامح والتواصل البناء.
 


هوامش:
(1) تحولات الفكر الفلسفي المعاصر: أسئلة المفهوم والمعنى والتواصل للدكتور عبدالعزيز بلعقروز. – الناشر : الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف.

 

* كاتب وأكاديمي فلسفي
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter