|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  17  / 5 / 2020                                 يونس عاشور                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

العلم في التاريخ
" قراءة في أعمال جون ديزموند برنال " (1)

يونس عاشور *
(موقع الناس)

من الأبحاث والنّظريات والدراسات التي كانت محط اهتمام لدى الأستاذ جون برنال في فكرهِ هو موضوع دراسة " العلم في التاريخ " أو المسألة التاريخية للعلم Science in History التي كانت وما زالت تبيّن مدى تحديد تقدّم المجتمع ذاته وتعمل على دمجهِ ميكانيكياً وديناميكياً جوهرياً بتقدّم العلوم الفيزيائية الطبيعية والتّغيرات البنيوية ألاقتصادية والسوسيوسياسية، وبما للنّظريات والاكتشافات أو المعطيات والاختراعات العلمية من أثر على الإطار العام للفكر، فقد دأب الأستاذ برنال في أبحاثه ودراساته البيولوجية المعقّدة التي كان يتناولها في مختبراته ومحاضراته العلمية إلى سرعة الكشف عن ماهية الفهم للعلم وعن العلم الذي يصنع التحوّل السريع الذي يطرأ على كل مدنيتنا فهو على حد تعبيره بأنّ هذا العلم ينمو. وهو لا ينمو في هدوء بل بوتائر سريعة وطفرات متفرّعة، بل وثورات كاسحة وحدود لا متناهية.
وما يهمُنا في هذا العرض التفصيلي هو التركيز قدر الإمكان على عرض الخصائص والحقائق أو النتائج والمناهج الأساسية للعلم بوصفها محطات تاريخية تصنيفية تمَّ وضعها في قالب نظري من قبل الأستاذ برنال حسب تشخيصه للمنهجية التاريخية لخصائص العلم وقد آثرنا في هذه القراءة على سرد منهجه العلمي ليكون أعمّ للفائدة ومن أجل التّعرف على المعالم والأبعاد الغائية والتاريخية للعلم الذي يتطلّب مزيداً من الدراسة والتفكير البنيوي الذي ينبثق من القراءة المتأنية بنحوٍ علميٍ وفلسفيٍ يمكِّننا من التعرّف على الاتجاهات والإختصاصات الفاعلة في أعمال الأستاذ برنال.
1- العلم كمؤسسة سوسيولوجية:
من الخصائص والسّمات التي تناولها الأستاذ برنال في دراسته التاريخية للعلم هو أنّ هذا العلم يُعتَبر كمؤسسة اجتماعية حقيقية واقعية تتمثل في طائفة من النّاس تضمهم روابطُ منظّمة ومُعيّنة في المجتمع، ويُشكّل العلم إحدى هاته الروابط الأساسية الذي يشترك فيها الأجناس من الرجال والنّساء على حدٍّ سواء في وظائفهم ومهنهم المتفرّقة ممّا يخلق طابعاً انتقالياً حديثاً على الصّعيد ألاجتماعي والحياتي من خلال دور الشراكة الفعلية لِكلا الطّرفين في مؤسسةٍ ما، مما يجعلها تضفي طابعاً عملانياً في تكوين صيغ وعلائق إبيستمولوجية علمية بقدر ما تقوم على توازنات ومهارات تقنية على الصّعيد العملي البراغماتي، فالإسهام هنا يشكّل مُنعطفاً مانِعاً للإنحدارات التي قد تنجم عن الممارسة الأحادية للفرد بدون شراكة وتوجّه اجتماعي علمي عام حيث أنّ الخصيصة العقلانية لمؤسسة العلم تعتبر في ماهيتها أجسام مُتماسكة وخيوط مترابطة في السيرروة بل ومنظّم بأجزاء تفاعلية وتداخلية بخواصٍ اقتصادية معيّنة ملازمة لانتهاج منهج التقدّم معتمدةً في ذلك على جهود الأفراد الذين يُزاولونَ المِهن الحرّة وينتهجونَ كل أشكال الأعمال المثمِرة والإنتاج الذي يتطلّبه السوق كميدان الطب والهندسَة أو الفن والفلسفة وغيرها من العلوم المختلفة والمتفرعة الأخرى التي بمقدورها القيام بتحقيق مفهوم الإنجازات الحضارية أو المكتسبات الربحية والإنتاجية التسويقية للمجتمع وحاجياته المتمثلة في جمع الثروات وتلبية الرّغبات الشخصانية وتحقيق مظاهر التقدم العلمِي والاجتماعي والصّناعي.
كان الذين ينشغلون بمؤسسات العلم في الأزمنة الماضية هم من طبقات ومجتمعات وفئات معينة لا يتداخل معهم أحد من غيرهم كالذين يمتلكون المناصب والثروات بحيث كانوا ينظرون إلى العلم حكراً عليهم وليس للآخرين الحق في المشاركة لكن سرعان ما انسلخت هذه الأفهومة Theory من أيدي هؤلاء بحيث أصبحت ممارسات وسياسات العلم تشق طريقها نحو التأسيس والتملُّك الاجتماعي الآخر قاصدةً الغني والفقير وكل الطّبقات الاجتماعية الأخرى.
2-أساليب العلم:
يتمثل أسلوب العلم Scientific Method كما يراه الأستاذ برنال بالمقارنة، أي مقاربة الحقائق التي تكمن في السيرورة، سيرورة النّمو والعطاء الكمي والكيفي والقيمي للعلم كأسلوب وكمنهج وكنظام متجانس يتألف من مجموعة مركبّات، بعضها ذهني والبعض الآخر يدوي وكلّ من هاتين الخصيصتين الفاعلتين لأساليب ومفاهيم العلم تبدو ملحّةً في أي مرحلة، ثم تنتقل في صيرورة الاهتداء إلى الإجابات على الأسئلة، واختبار هذه الإجابات واستخدامها بالطريقة الفاعلة.
ينحدر من أساليب العلم جذور وعناصر وحقائق ومركبّات منهجية تساعد في تقويم أساليب العلم كما يراها الأستاذ برنال من ضمنها:
I- حقيقة المشاهدة والتجربة Viewing experience التي تقوم على الحسّ النّظري لتنطلق من المُشاهدة والتّجربة إلى المُصادقة والنتائج النهائية للدافع العملي للعلم.
II‌- حقيقة التّصْنِيف والقيَاس.
يمثل التّصنيف Classification هنا الخطوة الأولى نحو تفهّم مجموعات الظواهر الجديدة للعلم، فلا بد من القيام بعملية تراتبية قبل الشروع في أي شيء، والقياس هو مرحلة من مراحل هذا التراتب وتكمن أهميته في الربط بين العلم والرياضيات من جانب وبينه وبين الممارسة التجارية أو الميكانيكية من جانب آخر، وبالقياس يمكن أيضًا أن نُحدّد بدقة ما يجب عمله وفعله لكي نحقّق شروطاً معينة ونحصل على نتائج متوخّاة.
III- حقيقة الأجهزة.
استحدث العلماء لأنفسهم على مر القرون مجموعة من الأدوات المادية Appliances أو ما يطلق عليها بالاصطلاح الفلسفي الأدواتية Tools، إنها الأدوات التي تستخدم في الحياة اليومية، وتقوم على وظيفيتين مُهمتين وأساسيتين:
- الاستخدام لغرض امتداد إدراكنا وإحساسنا بالعالم على وجه أكثر دقّة.
- كما تستخدم هذه في التّوسع بطريقة محكمة في التطبيق الآلي للمهارات اليدوية لاستخدام الأشياء المحيطة بنا.
IV- حقيقة قوانين وفروض ونظريات.
تنشأ مادة المعرفة العلمية ككل من نتائج التجارب Scientific Discovery، أو قل من خليط السيرورات والمشاهدات التي تتألف منها التجارب.
V – حقيقة لغة العلم.
انبثقت وتولدت لغة العلم من عمليات المشاهدة والتجربة والاستدلال المنطقي إلى معطيات الممارسة والحذق في الإنتاج العملي، هذا الأسلوب مكّن العلماء من التعبير في وضوح وإيجاز لترجمة معاني لغة العلم.
VI– حقيقة إستراتيجية العلم.
اتّفق العلماء على أن إستراتيجية العلم Science strategy تكمن في تكتيك التقدم العلمي وذلك من اجل حلّ المشكلات وإيجاد الحلول المرضية لشرح تقدم العلوم كما تتجلّى في تحديد ترتيب اختيار المشاكل المراد حلها.
VII- حقيقة العلم والفن.
الفن هو نمط اجتماعي كالنمط العلمي، ومن وظائفه وخصائصه أن يولّد الرغبة أولاً ثم الإرادة في فعل معين ولا يكتمل واحد من هذين النمطين المتجانسين في غيبة النّمط الآخر وفي الواقع لا يعيش العلم في غيبة الفن، ولا يعيش الفن في غيبة العلم.
التّذوق الجمالي والمتعة الأصيلة الناتجة عن تأمل، أو بالأحرى خلق تراكيب جديدة من الكلمات أو الأصوات أو الألوان أو اكتشاف تراكيب موجودة فعلاً في الطبيعة تخلق إحساساً وشعوراً تأملياً وعلائقياً بين الذات والشيء المراد إنجازه وإتقانه وتنفيذه والعمل على إخراجه بالكيفية التقنية الميثدولوجية للآخر من هنا حاجة العلم إلى الفن النابع من المشاعر الجمالية التي تؤطّره في نظمه وعلى أحسن حال وهيئة ليكون نموذجا ينظر إليه الآخر ويُعجب بهِ وبمخرجاته النهائية.
3-التقاليد التراكمية للعلم.
تتّسم التقاليد التراكمية للعلم بمفهوم الكمية والكيفية التراكمية العلمية للعلم cumulative of Science بحيث يكون هذا العلم متضمناً حصيلةً ضخمة من معارف الأسبقين وخبراتهم وتجاربهم بل وقدراتهم الفكرية لأنّ مُحصلّة هذه التّراكمات والتجميعات المعرفية يتواجد فيها الصحيح والمفيد لاستخراج نقاط انطلاق خلاّق إلى عمل فعّال للمستقبل وبطبيعة الحال فإنّ العلم بحد ذاتهِ كيان دائم النّمو من المعارف المبنية على تتابع التّصورات للأفكار، بل وتعاقب خبرات وتصرفات سيل عظيم من المفكرين والعاملين النشطين في ميادين العلم والمعرفة، وقد تطرّقنا في موضع آخر إلى هذا الاتجاه وتناولناه في إحدى دراساتنا عن "تفعيل مفهوم التقدّم العلمي".
4-العلم ووسائل الإنتاج.
العلم بوصفه نشاطاً اجتماعياً لم يكن تاريخاً مستقراً. فهناك انتفاضات وإرهاصات كبيرة للنشاط العلمي Scientific Activity، تعقبها فترات طويلة من الركود والقيود التي تعيق من سيرورته وانتقاله التّدرجي لتحقيق المكاسب والمراتب التراكمية، قد يكون بسبب عدم تحسين الإنتاج بهدف توفير الثروة والقوة. الأمر الذي إذا نتج عنه هذا الأمر كان لهذا النوع من النّشاط مردوده السلبي ومتى كانت الوسائل التقنية للإنتاج تسير وفق الضوابط والثوابت السياسية للعلم آنئذ يصلح هذا العلم وتصبح نتاجاته ومخرجاته سليمة.
5-العلوم الطبيعية كمصدر للأفكار.
العلم هو في الحقيقة شيء أكثر من التحسن المتواصل للتنظيمات الفنية وهو الإطار النظري الذي يربط بين الانجازات العملية للعلم The practical Achievements of Science ويضفي عليها تلاحماً واعياً متزايداً. لقد أرّخ للعلم في الماضي، وحتى في زمننا هذا، على أنه صرح سياسي للحقيقة تنبثق منه الأفكار والنظريات والمقولات والمعلولات التي تشي بمصدرها وجذرها إذ أن النّاحية النّظرية قد لعبت دوراً بالغ الأهمية للعلم وقد كان هذا الدور متعاظم الإيجابية في العصور الحديثة.
6-تفاعلات العلم والمجتمع.
هذه تتمّة العرض الأول للمظاهر العامة للعلم، كمؤسسة، وأسلوب، وتقاليد تراكمية، ووصف للروابط التي تصله بقوى الإنتاج والآيديولوجيات الفكرية العامّة.
لقد تفاعل العلم والمجتمع حقاً بعديد من الطرق فإذا فكّرنا في أحد الاكتشافات البالغة الدقة، مثل الموجات الكهرمغنطيسية، نجد أنه ابتدئ في أول الأمر بالتنبؤ عنها نظرياً، ثم كشف عنها في المختبرات العلمية Scientific Laboratories، ثم جرى تجربتها على المستوى الهندسي، وأخيراً أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية، كما في حالة الراديو بالطبع أنّ المعرفة العلمية، والأسلوب العلمي، يؤثّر إلى حدٍّ مستشري على النمط الفكري والسياسي والاجتماعي والثقافي. وقد أصبح العلم الآن مؤسسة بشرية كبرى نتيجة للتفاعلات والتحولات والتطورات التي تنشأ من الاحتكاك المباشر في مناهج العلم.
لقد استطاع العالم في العصر الحديث أن يحقّقَ إنجازات علمية كبرى في ميادين العلم وتطبيقاته العملية انبثقت تلك الانجازات من المؤسسات البشرية نتيجة التّفاعل والتّداخل والتّحوّل الجذْري المباشر بين العلماء وسائر المناهج العلمية المختلفة، لنساير ركب التّطور العلمي الحديث.. فمن يتّخذِ العلم هدفاً له يفزْ.
جون ديزموند برنال (10 مايو 1901 - 15 سبتمبر 1971)، أحد أشهر العلماء البريطانيين وأكثرهم إثارة للجدل. عرف عنه باستخدامه للأشعة السينية لطريقة تحليل المواد البيولوجية، مما جعل منه رائدًا في مجال علم الأحياء الجزيئي. كما أسهم برنال في استخدام الأشعة السينية كتقنية مهمة وفاعلة في علم البلورات.


(1)
ولد برنال في أيرلندا ودرس فيها، كما درس في جامعة كامبردج، ثم أصبح محاضرًا في كلية بركبيك بلندن عام 1938. ومن كتبه "الوظيفة الاجتماعية للعلوم" عام 1939، وكتاب "العلوم في التاريخ" عام 1954.
 


* كاتب وأكاديمي فلسفي
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter