|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  16  /  4 / 2023                                 يونس عاشور                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

محطات وإضاءات قيميّة في سرد سيرة نموذجيه (13)
المأزق الفكري بينَ الانغلاق ومطلب الانفتاح..!

يونس عاشور *
(موقع الناس)

عندما أرادَ صاحبنا الفرار من القلعةِ أخذَ يُفكّرُ في أساليبٍ تكتيكية مجدية والقيام بأدوارٍ تمويهيّة فاعلة لصرف وجهة نظر الوالي وحاشيته عن نيلِ مآربهم منه وفي ذلكَ تمهيداً أيضاً للخروج من المأزقِ الفكري الذي قد وقعَ فيهِ مع والى القلعة وحاشيته، وعندَما أدركَ خطُورة الموقف معهم سارعَ صاحبنا في توظيفِ آليات جديدة للتفكير والتغيير العملاني الفاعل بين توضيح مطلب الانفتاح من والي القلعة عليه ومن ثمةَ محاصرة الانغلاق الفكري الذي كانَ متجلياً في شخصية وعقلية الوالي وحاشيته إبان استيائهم في تنفيذ مطالبه للحصول على مساعدات معنوية تخلّصه من الإشكالية التي تسبّبت له بالتيه والضّياع مع رفاقه إبّان رحلاتهم وتنقلاتهم، وقد كانَ لذلك الطرح صُعوبة بالغة في مستهل الأمر، لأنّ ذلك قد قوبل بمنطق الرفض وعدم الاستمراء في تنفيذ المطالب والمساعدات التي قد تقدّم بها إليهم، تجلّى ذلك في طريقة التعامل اللااعتبارية من قبل الوالي معه بعدم الاكتراث للموضوع أو إيلاءه أيّة أهميّة تُذكر، من هنا فإنّ صاحبنا حاول فيما بعد ممارسة أساليب الإقناع وقد تضمّنت في جملتها محسّنات بديعية وصياغات كلاميّة وبلاغية من أجل استدراج مشاعرهم للخلاص منهم، إلّا أنّه في نهاية المطاف لم تجدي استعمال تلك الأساليب نفعاً معهم لأنّ ذلك الأمر قد تحوّل إلى عملية تنكّر وتنطّع ومكر ودهاء لأجل تصفيته وتصفية رفاقه.!

"إن الإشكالية المنهجية التي تواجهنا اليوم هي مسألة "الانغلاق الفكري" التي تتمثل في الجمود الإيديولوجي أو الدوجماتية في عدم تقبّل الفرد لفكرة أو معلومة ما، أو توجه لدى طرف آخر، وقد يكون عدم التقبل راجع إلى جهل وعناد وليس إلى معرفة وانقياد معرفي في إطاره المعرفي الإبيستمولوجي، وهو نوع من أنواع الجهل وعدم توسيع المدارك والعلم والثقافة والقراءة وأساليب تقنية الحوار.

من هنا فإنّ العلاج الأمثل لهذه الظاهرة الخطيرة التي تشكل عائقاً جوهرياً في كيفية فهم الآخر واستيعابه هو إيجاد القراءة المنهجية العملانية المتعددة المصادر لمعرفة التوجهات المتعددة أيضا لأنّ ذلك يعمل على تمديد المدارك ويخلق أرضية للاختلاف في تجديد عامل الائتلاف المعرفي سواءً كانَ على مستوى الرؤى والأفكار أو على مستوى المفهومات والمعلومات والموضوعات التي قد تُطرح من هنا وهُناك وفي إطارها الفكري الموضوعي فهذه الخطوة هي أفضل وسيلة تعمل على تغيير ثقافة الفرد والمجتمع من الانغلاق الفكري إلى الانفتاح اللاقهري وتقبل وتفهم الاختلاف بطريقة علمية وموضوعية".(1)

إن الخصائص والسمات السيكولوجيه في منهجية الانفتاح الفكري إنما تكمن في اكتساب الفطنة والبصيرة في ذهن الإنسان التي تجعل منه أن يحيى تجارب عملية جديدة في حياته مما تؤهله إلى الديمومة في سيرورة النمو والتطور الذهني والمعارفي، وبالتالي اكتسابه مقوّمات براجماتية وعقليه ومداركية تقوّم عقله بطريقة حيوية وأكثر تراكمية للمعارف والعلوم الإنسانية من الأشخاص الآخرين كما أنّ ذلك يغرسُ في الإنسان موضوع التفاؤل في الحياة مما يؤثر إيجاباً على حياته وعلاقاته وتفاعلاته بالآخرين هذا عدا نظراته للأمور الحياتية التي تجعل منه في حالة الاستقرار والتوازن العقلِي والسيكولوجي.
نعود إلى قضية صاحبنا مع والي القلعة بعد هذا الاستطراد المقتضب حول أهمية الانفتاح ومحاصرة منطق الانغلاق الفكري.

لقد قال والي القلعة إلى صاحبنا في نهاية المطاف سأدلك على شخصٍ يقال لهُ "عبسوي" يقطن خارج القلعة في غابة على بعد أميال من هنا، وبإمكانك الذهاب إليه مع رفاقك علّه أن يسدي لك ما تصبو إليه، وإذا قصدتموه فقولوا له نحن قد أتيناكَ من قبل والي ألقلعة ونرجو منك الوقوف معنا لحل قضيّتنا هاته. بالفعل حينما أدرك صاحبنا خطورة الموقف وما قد نجم عنه – ساورته في ذلك شكوكاً وارتياب بأنّ ثمة شيئاً ما يُحاك ضده فسارع بالانسِحاب منهم شيئاً فشيئا ومغادرتهم على حين غفلة، وبالفعل استطاع صاحبنا أن يفلتَ منهم دون أن يلقوا بالقبض عليه، وبينما هو يخطو خطوات يائسة في ردهات القلعة وإذا بالحرّاس اللذين كانوا واقفون هناك يتربّصون به حتى يتمكنّوا بالإمساك به، لكنّه أستطاع بحنكته وذكائه وحكمته الفرار منهم، وبالفعل نجي بنفسه من مكرهم ودهائهم حتى وصل إلى رفاقه بسلام وهما في حالةِ اشتياق إليه وخوفاً عليه،! وصل إليهم وهو شاحب القسمات، مرهق الوجه، مرتجف الشفتين قد أنهكه لقاء الوالي والسّير في فناء تلك القلعة الشاسعة وما واجهه من مخاطر جمّة، وهنا تعجّب رفاقه من صموده على مجابهة المشكلات والمعضلات الجسام فقالا له:
ما هذه المكابدة والمعاناة التي تلوح في وجهك..!؟
صاحبنا: هيّا لِنغادر هذا المكان حالاً.. قبل أن يأتي إلينا أحدهم ويمسك بنا أو ينهي حياتنا..!
إني أيقنت بأنّ والي القلعة ليس أهلاً للثقة، لأنّه هو من قد حاول اغتيالي وتصفيتي، لكنّني نجوتُ منه بحمدِ الله.
لقد رأيت عجبَ العجاب في ذلك المكان واحمد الله إنكما لم تأتيا معي..!
أبو دولامة والشيخ المسن ماذا تقول يا صاحبنا..!؟
صاحبنا : ليس لدي وقتٍ كاف لكي أشرح لكما كل ما قد عاينته هناك..!
هيّا لِنغادر في الحال..!
أبو دولامة والشيخ المسن : على السّمع والطاعة..!
لقد كانوا أثناء فرارهم يتحدّثون عن قضيتهم والتفكير في كيفية الخلاص من المأزق الذي قد ألمّ بهم، وقد شرح لهما صاحبنا ما قد واجهه من متاعب ومصاعب مع والي القلعة فيما بعد، وأنّ ثمة وحوش كاسرة كادت أن تزهق بحياته.
لقد مارس الوالي خداعاً زائفاً معه وقد أدرك صاحبنا فيما بعد بأنّ ما قد حدث لهُ مكيدة ومكر أراد له الوالي أن يقع في الفخ هذا ما وضّحه وشرحه صاحبنا لأبي دولامة والشيخ المسن.
أبو دولامة والشيخ المسن لصاحبنا: إذن لم تتمكن من نيل مآربك منه..!
صاحبنا : كلا لقد أنذرني بالتهديد والوعيد أن لم أغادر قلعته ..!
لكنه في نهاية المطاف أرشدني إلى شخصٍ يقال له "عبسوي" حسب ما كان يدّعي بأن هذا الشخص يقطن في غابة وعلى بعد أميال من موقعنا هذا فما هو رأيكما لو قصدنا ذلك الشخص المكنى ب "عبسوي" والقول لصاحبنا.
فقالا له وماذا تقول هل جننت هذه المرة وأنت قد علمت بأنّ والي القلعة كانَ مراوغاً معك إلى حد النهاية والآن تطلبُ منّا بأن نذهب إلى ذلك الشخص الذي قد أشار إليه الوالي ، فلربما هذه مكيدةٌ من مكائده.
فقال لهما صاحبنا إني فقط أردت أن أشاوركما حول هذا الموضوع فلربما قد نجد ضالتنا لو حاولنا الذهاب إلى الغابة وجربنا كلام الوالي إزاء ذلك.
لقد قرروا في نهاية المطاف بأن يقصدوا ذلك الرجل المكنّى "بعبسوي" وبالفعل ذهبوا إليه وعندما وصلوا إلى الغابة واصَلوا البَحْثَ والتفتيِش عنه حتّى وَجَدُوا كوخاً مصنوعاً من سعف النخيل وخشب الأشجار في زاويةٍ مظلمة حيث يقطنُ ذلك الرجل، فطَرَقُوا عليه الباب.!؟
فقالَ عَبْسَوي: من الطّارق؟!
فقالَ صَاحِبنا: هل لكَ أن تفتحَ لنا الباب يا هذا؟!
عَبْسَوي : انتظر يا هذا .. أنا قادِمُ إليك .. سأفتحُ لكَ الباب..! وقد كان الكوخ متّسعاً بمساحته من حيث البعد.
لقد فتحَ لهمُ الباب وقد رأوهُ بثيابٍ غريبةٍ وهيئة عجيبة، عال القامَة، يرتدي عِمامةً على رأسهِ، ضرير العينين، لهُ ساعدان كبيران وكانَ يحملُ حقيبةً في يده، وعندهُ عكّاز يتوكأ عليه عندَ المشي لكِبر سنّهِ، قوي البنيّة، عندما رأوه بدأو بالسلام عليه وقالوا لهُ هل لنا بالجلوس معكَ والتحدّث إليك أيها الرّجل..!؟
فقالَ لهم تَفَضّلوا على الرّحبِ والسّعة فهذا المكان مكانكم ولا تستشعروا بأي حرجٍ أو خجل منّي وأنا في خدمتكم..!
لقد سَألَهم في بادئ الأمر عن كيفيةِ معرفتهم ووصولهم إلى مأواه النائي الذي لا يتسنّى في الغالبِ لأحد ما معرفته أو رؤيته..!
فقالوا له نحن قد أتيناك من قبل والي القلعة وقد وجهنا إليك لكي تقوم بمساعدتنا..!
فتعجّب الرجل "عَبْسَوي" منهم! وقال لهم وكيف استطعتم مقابلةَ الوالي...؟!
لا شكَّ أنَّكم تَتَهكّمُوُن، لأنّه ليسَ بمقدورِ أحد من الناس مقابلتة أو التمكُّن من رؤيته، فهو يقطنُ في برجٍ عاجٍ وقلعة محصنّة بجدرانٍ عالية فلا يُأذنُ لأحد ما بالدخول عليه أو الجلوس بين جنبيه، لأنّ حرّاسُه هُنالكَ كثيرونَ وقد أعطاهم الأوامرَ بأن يَمْنَعُوا الأشخاص الذين يقصدون القلعة، إلا المقرّبُوُنَ منهُ أو الذين يعرفهم وتجمعه معهم أواصرَ مودة ومحبّة أمّا أنتم فلا أحسب أنّكم تَعْرفونَه أو يَعْرفكم!؟
ثمّ ما هو الدليل على أنّكم قد قابلتموه..! ويبدوا لي أنّكم لستم من أهل هذا المكان ، فالذينَ يَقْطُنُونَ هنا هم أناس لا يتّصفون بالأخلاق وسجاياهم غلظة ومُعَاملتهم غير إنْسَانيّة يقتلُ بعضهم بعضًا ويسلبُ بعضهم البعض مُتَمَرِدُونَ كلُّ واحد منهم يطمحُ إلى أن يصلَ إلى عتبةِ والي القلعة «السلطان» لكي يصبح الآمر الناهي في كل شيء ولعلكم رأيتم بأمِّ أعْيُنِكُم كيف أنّ حاشيته وجلاوزته يتسابقونَ في طاعتهِ والامتثال لأوامره.!
فقال صاحبنا لِعَبسَوي الدليل هو أنهُ قد أشار إليك بالبنان وقال لنا إن أردتم الخلاص فأذهبوا إلى شخصٍ يقطنُ الغابةِ يقال لهُ عبسوي فهل هو أنت ذلك الشخص الذي قد أشار إليه الوالي بالبنان؟!
فقال الرجل نعم..
صاحبنا: إذن يقتضي عليكَ أنْ تَثقَ بِنَا.. بأنّنا قد جئناك من قِبَلهِ (الوالي).
وبالفعل فإنّ والي القلعة الذي جئناك من قبلهِ يتّصِفُ بصفاتٍ غير أخلاقية، مُتَغَطْرِس ومُتعجرف في معاملتهِ مع الآخرين وقد لمِسنا منه ذلك، فحاولَ دس المكائد لنا، لكنّنا نجونا بأنفسنا منه! فنرجو مِنك الثقة بِنا أيُّها الشّيخُ الكبير.!
عَبْسَوي: إنّ ذلك الوالي لهُ طباع حادّة ، وقد نشأ بيني وبينهُ خلافٌ شديد حتى أٌقصاني عن قلعته وحاشيته ، وجردني كل حقوقي التي كنت أنالها منه.!
عَبْسَوي: لا عليكم ما دُمْتُم قد وَصَلْتُم إليّ فأنتم بخيرٍ وسلام من أمرقم والآن ماذا تريدون مني...؟!
صاحبنا : نريد منكَ المساعدة والتوجيه والإرشاد نحو الطريق الآمن للخروج من هذه المدينة! فهل تسمحُ لنا بالبقاء معك حتى اليوم التالي وبعدها ننظر في أمرنا وما قد تقدمه لنا من خدمات..
عَبْسَوي: ليس ثمةَ ضير في ذلك ننظر وتنظرون ونصبح وتصبحون.! أجلبوا أمتعتكم إلى الداخل حفاظاً عليها من قطاع الطرق فاللصوص في هذه الغابة كثر ، يتحّينون الفرص للسرقة من المارة.!
لقد جلبوا كلّ أمتعتهم التي كانوا يحملونها معهم إلى داخل الكوخ وقد خصص لهم عبسوي مكاناً للراحة والنوم، باتوا تلك الليلة وهم ينتظرون من الشيخ عبسوي تقديم الخدمات لهم ومساعدتهم وبينما هم نائمون وإذا بالرجل عبسوي يخرج من الكوخ في ليلٍ مُظلم حتى صبيحة اليوم التالي إلى أن اسْتَيْقَظُوا من نومهم فلم يجدوا له أثرا فتوجسوا منه خيفة وما قد ينجم لهم! وتشاوروا فيما بينهم فقرروا الهروب من الكوخ لكيلا يبصرَ بهم أحد وبينما هم يغادرون وإذا بـ " عَبْسَوي " يَقْبِلُ عليهم ويراهم وهم يتخافتون فقال لهم إلى أين أنتم ذاهبون أيها الرفاق ..!؟
فالمكان هنا خطيراً للغاية ..
فقالوا لهُ أين كنتَ يا هذا طوال الليل؟!
فقال لهم كانت لديّ مُهِمّةُ ما قد مضيت لإنجازها، وها أنذا قد عدْتُ لكم ثانيةً.!
فقالوا له: هل لديك شيء من الطعام كي تجلبهُ لنا؟!
فقال لهم: نعم عندي نعماً كثيرة هنا..!
يتبع..


هوامش:
(1) صحيفة الوطن السعودية – مقال عن "الانغلاق الفكري" للكاتب فهد بن عبدالله الباز بتاريخ 08 فبراير2021

 

* كاتب وأكاديمي فلسفي
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter