|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  11  /  10 / 2021                                 يونس عاشور                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

محطات وإضاءات قيميّة في سرد سيرة نموذجيه (3)
في الحاجة إلى قبول فلسفة الاختلاف عبر التسامح والانفتاح

يونس عاشور *
(موقع الناس)

لقد واجه صاحبنا مصاعبَ جمّة إبّان إقامته في تلك المدينة خاصةً مع الوافدين من خارج المدينة، فالإنسان غالباً ما يكون له مناوئون بسبب أو غير سبب هذا ما يشهد عليه أيضًا واقعنا المعاصر، حيث يتجذر هذا المفهوم من خلال وجود عوامل وبنيات سلوكية غير سوية في شخصية الإنسان، من هنا ليس بالضّرورة أن تكون مُستوعَباً لدى الآخرين جُمْلةً وتفصيلِاً أو تكون حاضراً عِنْدَهُمْ كلمةً وقيلا من حيث الاستيعاب الفكري والإيديولوجي، فثمةَ من قد يختلفُ معك في التوجه والفكر، وقد لا يوافقك على مُجمل آراءك وأفكارك حتّى وأن كانت ذو صبغة مثالية ونموذجية من حيث الأسلوب والمنهجية.

هكذا هي الجبلَة البشرية بطبيعتها وخصيصتها السيكولوجية تتعامل مع الأمور على منطق الاستمراء أو الرفض للرأي من خلال دوافع ذاتية قد تكون مصلحيه نتيجة لظرفٍ ما يمارسه الإنسان للدخول في النقد الكلامي على الرأي الآخر وربما ممارسة الإقصاء والنّفي والتجريح وعدم قبول الرأي الآخر أو فهمه وقراءته قراءة موضوعية، من هنا فإنّ من لا يحسن قراءة الخطاب يعمل على تصفية الحساب أيضاً وهو النّفي والإقصاء وعدم قبول فلسفة الاختلاف والتمكين لمفهوم التعددية الفكرية أن تحصل وتأخذ مجراها في تحقيق المشاركة الجماعية لصهر الأفكار المختلفة وتجميعها في وعاء فكري واحد يعمل على الاستثمار الأمثل لخلق المنطلقات والإحداثيات الجديدة التي يتطلع إليها الإنسان كالبناء والتنمية المستدامة في مجمل مرافق الحياة المختلفة من خلال الفكر الجمعي لا الفكر الأحادي القائم على منطق الانعزال والتفرد بالرأي وعدم إتاحة الآخرين للمشاركة معه والتي من شأنها أن تخدم الصالح العام على نحو ردم الهوة التي قد تحدث نتيجة الاختلاف الحاد والانشقاق الفكري الغير موازي للمنطلقات السامية والذي هدفه الانغلاق وعدم التسامح والانفتاح على الطرف الآخر الذي ربما يحمل أفكاراً إيجابية تساعد في عملية إزالة كل ما هو عائق ومتجمد نتيجة التعصب الفكري الذي يحدث من هنا وهناك ومن أناس قد لا تكون لهم المسؤولية والتطلع نحو الشمولية الهادفة للنهوض بالإنسان نحو إيجاد مختلف الحلول للقضايا الحياتية والمصيرية ، فمن المقتضى الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الانقسامات والنزاعات المجتمعية والفئوية أو الحزبية والقبلية نتيجةً للتفرد بالرأي وذلك عبر توظيف المفاهيم التربوية الصحيحة كالتسامح والانفتاح والتصالح والإصغاء إلى الآخرين بصدرٍ رحب يقوم على أساس الأخلاق التربوية التي تنطلق من حب الإنسان لغيره ومجتمعه وأمته في بناء المشتركات والعلاقات الخيرة العامة. وإذا لم يتحقق ذلك فإن النتائج ستكون وخيمة وكارثية وهذا ما حصل في الماضي بين الأمم والمجتمعات والشعوب التي اختلفت مع بعضها البعض وانشقت وأخذت مناحي مغايرة في التوجهات والغايات ولم ترغب في تفعيل مفهوم الوحدة والاتحاد والمشاركة الجماعية في الآراء والأفكار فقد تحولت فيما بعد إلى فرق متناحرة يقتل بعضها بعضا فقد نسيت أهدافها وتطلعاتها وطموحاتها. بل الملاحظ حتى في عالمنا اليوم ترى هذه النزعات موجودة وتحصل على أكثر من صعيد نتيجة التعصب للرأي وعدم إتاحة الفرصة للآخرين في بناء المشتركات المصيرية.

كم نحن بحاجة إلى النخب الواعية من جيل المثقفين والمفكرين والأساتذة التربويون في توضيح المسلك الصحيح من أخطار هذه الانقسامات والنزاعات وأثرها السلبي على الأمم والمجتمعات وكيف أنها تساعد في تدمير كيان المجتمع وإتاحة الفرص للأعداء بأن يستغلوا مثل هذه الانشقاقات بين صفوف الأمة الواحدة.

من المقتضى توضيح المسلك الصحيح في كيفية الخروج من هذا المأزق والحديث عن أسبابه وبواعثه وكشف النوايا السيئة التي تؤجج هذه الاختلافات وتعمل على إشاعتها من أجل مصالح فئوية ذاتية ضيقة لا يهمها شيء سوى أن ترى المجتمع ممزق إلى كيانات متناحرة تعيش على الانقسام الطبقي الذي يجلب الدمار والخراب والتخبط في معرفة ودراسة القرارات التي تراعي المصلحة العامة وتبعد الناس عن المنزلقات الخطيرة التي تهدد كيان وأمن المجتمع فالحصانة المجتمعية تكمن في إيجاد فلسفة تؤسس للاختلاف المبني على قبول وجهات النظر المختلفة على أساس الانفتاح والتسامح حتى يتسنى لنا السير إلى بر الأمان.

"كان الاختلاف ولا يزال موضوعاً يشكّل أزمة فعلية حادّة في الخطاب الأنتروبولوجي المعاصر على جميع مستوياته وتحولاته وتطوراته الزمنية. فإشكالية الاختلاف طرحت نفسها بقوة في كل ثقافة إنسانية بل هي واقع يخترق كل مجتمع بشري، إذ لا يوجد مجتمع يخلو من التعدد والتنوع الثقافي والسياسي، وتكفى نظرة عابرة حول ما يحدث في عالم اليوم من اختلافات وخلافات ثقافية وسياسية واجتماعية فلعلَّ مشكلة المشاكل عندنا اليوم هي مشكلة الاختلاف وعدم قبول الرأي الآخر، والسؤال المطروح هنا هو هل ثمّة منهاج عملاني يعمل على إدارة هذا الاختلاف؟!

بعد حروب ضارية وصراعات دامية مريرة خاضتها بعض الأمم والشعوب، انتهى مفكروها ومنظِّروها في نهاية المطاف إلى بلورة رؤية موضوعية للاختلاف وإلى الاعتراف بقانونيته وإعطائه صبغة ثقافية رسمية، وقراءة سريعة في بيان الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في عام 2002 م، والتي أعلنت يوم 21 مايو اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية، ونظرة أخرى إلى محتوى بيان الإعلان الإسلامي حول التنوع الثقافي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
ISESCO ايسيسكو ليتبيّن للباحث أن البشرية تسعى اليوم إلى اعتماد قيم الانفتاح والتسامح والنسبية والتعدّدية وحقوق الإنسان، وأن الاختلاف أصبح هو جوهر الديمقراطية وروحها.

وناهيك على أن يكون موضوع الأنتروبولوجيا الأساسي أو ربما الوحيد هو دراسة ظاهرة الاختلاف بين بني الإنسان كما يرى أستاذ الأنتروبولوجين المعاصرين كلود ليفي ستراوس، فإن الأهمية الإستراتيجية التي يحظى بها مفهوم الاختلاف في الفكر الغربي تعود إلى أنه "انطلاقا من الاختلاف ومن تاريخه يمكننا معرفة من وأين نحن، وما يمكن أن تكون عليه حدود عصرنا "كما يقول جاك دريدا".

لكن تحويل الاختلاف الثقافي بين الثقافات، إلى ثقافة في الاختلاف يحتاج إلى طرح فلسفة الاختلاف على مشرحة البحث والتحليل لمعرفة محدداتها وتجلياتها وشخصياتها ورموزها لتتأصّل ثم تترجم إجرائيا في واقع الناس إلى ثقافة سلوكية ثقافة الاختلاف وفلسفته كقيم عالِمة شعبية ليتحقق السلام العالمي وتسود شراكة الكينونة بين سكان الأرض في زمن القرية العالمية الواحدة أو في زمن الغرفة العالمية الواحدة التي تقلص فيها العالم وانكمشت المسافات وتكاثفت عمليات التواصل والتبادل على المستوى النفسي والأخلاقي وأصبحت الأرض أكثر صغرًا" على حد تشخيص ليفي ستراوس.(1)

هذا الطرح يقودنا أيضاً إلى التطرُّق إلى قيمة وفن الاختلاف كمنظور فلسفي وأخلاقي في كيفية توظيف الرأي وقبول فلسفة الاختلاف الذي يعتبر من الموضوعات الرئيسة في تنمية ثقافة الإنسان والوصول به إلى قمم الحضارة الإنسانيّة الراشدة التي تنقلنا إلى وعيٍ ثقافي منتج بالشعور والمسؤولية اتجاه بعضنا البعض، قبول ثقافة الاختلاف بين أبناء المجتمع الواحد أو الأمة الواحدة إنما يكمن في تقبّل رأي الآخرين برحابة صدر كما أسلفناه آنفاً حتّى وإن لم تتفق مع توجهاته والفكرية . وقبول ثقافة الآخر إنما تتمثل في عدم إقسار الآخرين على قبول آرائنا الشخصيّة من غير اقتناع تامّ.

من هنا ينصح علماء الاجتماع إلى عدم تحويل الاختلاف في الآراء إلى صراعات وخلافات، فإنّ ذلك يضيّع أساسيّات الثقافة الحوارية الصحيحة وإقلاع الجذر الحقيقي لقيمة فلسفة الاختلاف التي تكمن في التعددية الفكرية والثقافية.

إذن الحاجة إلى تعميق وتأصيل فلسفة الاختلاف في عقلية الإنسان وإذا كانت المجتمعات المعاصرة تغفل هذا الجانب في حياتها أو تحاول عدم استيعابه فإنها ستظل قابعة بين الأخطاء والسلبيات في اكتساب فلسفة فن التعايش التي تتضمن حضور هذا المفهوم الفكري والفلسفي الذي يقوم على أسس ومرتكزات تنبع من السلوك والتربية والتنمية العقلية وصقل الشخصية الإنسانية بصفات وخصائص جوهرية تنطلق من مستويات وبنيات إدراكية وعقلية وثقافية ومعرفية.

نكتفي بهذا القدر من الحديث عن موضوع الاختلاف ونعود إلى قضية صاحبنا:
حاول البعض من الحاسدين والمناوئين العمل على نشر الدعايات المغرضة والأقاويل المتناقضة في حق شخصية صاحبنا لكي يدفعوا بالجمهور للابتعاد عنه والتخلّي عن نصائحه وتوجيهاته القيميّة التي كانت تقوم بدور توعية المجتمع في بناء الأولويات الرئيسة خاصة فيما يخصّ التوجيه والإرشاد نحو تأصيل ثقافة فلسفة الاختلاف وقبول التعددية الفكرية عبر منهاج التسامح والانفتاح.

بالطبع الإنسان الذي يسعى لمناوأة الآخرين غالباً ما يتبنى مصلحة ما سواءً كانت مادية أو ذاتية كالتفرّد بالرأي وعدم إتاحة التعدد لأيّ رأي أن يظهر على الساحة بكفاءة وجدارة وقدرة متميزة وبارزة في الطرح والمفهوم المعنوي.

إن افتعال العداء للآخرين بسبب الخلاف والاختلاف في وجهات النظر إنما هو ناتج عن نقصِ في وعي الإنسان بل عدم توافر السلوكيات الأخلاقية المعرفية من شأنها أن تدفع بالإنسان نحو الوقوع في الجهل وبالتالي افتعال المشكلات مع هذا وذاك.

لقد ركّز علماء التربية على أهمية توظيف الجانب السلوكي في شخصية الإنسان منذ نعومة أظافره حتى لا يكون هنالك انحرافات سلوكية وتربوية تنبعث من شخص الإنسان فالجانب السلوكي يعمل على تهذيب النفس وتقويم السلوك اتجاه من نتعامل معه سواء اختلف معنا في الرأي أو في طريقة التفكير فلا ينبغي أن يكون ذلك مدعاة للتشنّج وخلق العداوات والمناوشات الاجتماعية المختلفة.

عندما استشرت الوشايات والدعايات على شخصية صاحبنا، بدأ كثير من الناس ممّن عاشروه وعرفوه بالابتعاد والتخلّي عنه بسبب الأموال والرشاوى التي دُفِعت لهم في قِبال تشويه سمعته من قبل مناوئيه.

إذا أردت إتباع القول الصحيح فكن مقتنعاً ومتيقناً بما يطرح عليك ولا تغرنّك المصالح الدنيوية أو المادية التي قد تُسْتَدْرَجْ من أجلها للتخلّي عن مبادئك وقيمك النبيلة.

بدأ صاحبنا يفكر ويفكر بما آلت إليه الأوضاع في مدينته التي كان يقطنها وقتذاك ومدى تأثير ذلك على عقول الناس، فقرّر الهجرة إلى موطن آخر كما أسلفناه علّه يجد ضالّته المنشودة ومن ثمّة يتنفّس الصعداء.

بعدما وصلته معلومات وأخبار بأن المغرضين يتربّصون به ويتحيّنون الفرص لتصفيته جسدياً بسبب حقدهم الدفين عليه قرّر مغادرة المدينة والذهاب نحو فضاء آخر لكي ينجو بنفسه من الموت.

هذا العصر مليء بالأشخاص الذين لا همّ لهم سوى مصالحهم الدنيوية والمادية حتى وان وصل بهم المطاف للتخلّص من أقرب الناس إليهم حسباً ونسباً فعلوا ذلك لأجل حفنة من المال وحب الأنا المتمردة على الغير.

في نهاية المطاف قال صاحبنا لبعض أصاحبه الخُلّص ممن كانوا مقربين منه أثناء إقامته معهم سأضطر للهجرة في المعمورة فحاولوا الانتفاع قدر الإمكان من بعضكم البعض بأسلوب النصيحة والإرشاد العلمي بينكم وكونوا على يقين بأن تآلفكم مع بعضكم البعض سيكون له نتاجات هدفية تتغلبوا من خلالها على النفس الشيطانية التي تهدد الأمن والسلام.



هوامش:
(1) مقدمة في فلسفة الاختلاف دراسة انتروبولوجية عند الأمير عبدالقادر الجزائري – أطروحة ماجستير ، إعداد الطالب/ فرعون حمو وإشراف الأستاذ الدكتور سعيدي محمد السنة الجامعية 2009-2010م

 

* كاتب وأكاديمي فلسفي
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter