|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  7 / 5 / 2017                             وردا البيلاتي                              كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

من ايام الكفاح المسلح

ذكريات لم تغادر اعماقنا..
إلى اين؟

وردا البيلاتي
(موقع الناس)


اسرعتُ نحوها الخطى فصوتها مألوف لي، كانت ملامحها قد تغيرت، واصطبغت خدودها باللون الاحمر، فضاعت تلك الابتسامة التي كانت تستقبل بها الانصار كل صباح. ماذا حدث لام نزار(فهيمة شليمون) لتكون منفعلة الى هذا الحد! قالت بصوت يشبه الأنين "لقد هربنا من بغداد الى دهوك ومن ثم الى برواري بالا واليوم الى اين المفر"؟.

في تلك اللحظة بالذات أخترق صوت الطائرات المقاتلة سماء (كلي هصبة) مقر فوج الثالث لأنصار الحزب الشيوعي العراقي قاطع بهدينان. تفرقنا سريعا وابتعدنا عن بعضنا البعض، وما ان ساد الهدوء المكان حتى رأيت ام نزار وهي تجلس على احدى الصخور، وقد التفت حولها دجاجاتها التي ترعاها، وقد قفزت واحدة من هنً في حضنها، كما لو كانت طفلة تواسي امها حينما تجدها حزينة، كان الآرتباط الروحي بينها وبين دجاجتها غريب جداً. عندما تقدمت نحوها كي اخفف من حزنها كانت ما تزال تنوح وهي تنظر الى المدى "حتى الطيور والعصافير هاجرت ، الدجاجات خائفات من القصف فالتجأوا لي كي احميهن، ولكن من يحمينا"؟

جاءنا صوت ابو نزار (*) يهدر "لقد صبرنا سنوات طويلة وسنصبر ونكافح من اجل مبادئنا، من اجل طفولة سعيدة ومن اجل الكادحين وجميع الفقراء، ما حيينا".

اجابته ام نزار وما انفك النواح يشوب صوتها "نعم صبرنا وصبرنا ، ولكن الى اين الان نحن سائرين ؟ منذ يوم دخولك السجن ونحن مشردين خائفين، من ارهاب البعث وجلاوزة الامن والاستخبارات، فالى متى قل لي"؟

استغربت مما ذكرته عن السجن، فلم اكن اعلم ابدا بأنه قد دخله يوما ، لذلك استفسرت منه سائلا : "اي سجن هذا يا ابو نزار"؟ اجابني دون اهتمام "لقد سجنت ظلما ايام الجبهة".
ازدت تعجبا ودهشة وانا اسأله "عن أي جبهة تتحدث" ؟

تطلع إلي بنظرة ثاقبة كعيون النسر الذي يريد ان يصطاد فريسته وبغضب قال "جبهة الكوارث مع حزب البعث وحزبنا في تموز 1973(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية)"! واصل حديثه بامتعاض "كنا قد عدنا الى قرانا بعد انهيار الحركة الكردية في عام 1975، وباشرنا العمل في مزارعنا وبناء بيوتنا من اجل الاستقرار وممارسة حياتنا الطبيعية، إلا ان جهاز المخابرات والعملاء من ابناء المنطقة، شرعوا بكتابة التقارير ضدنا، خوفاً من توسيع وازدياد القاعدة الحزبية. فتم فبركة قضية اغتيال احد ابناء المنطقة وهو اشوري (مختل عقليا)، اثر ذلك عقدت الجهات الامنية البعثية ندوة في قريتنا (دوري)، متهمين الحزب الشيوعي بقتل ذلك الشخص. لم استطع السكوت يومها، ورديت عليهم بأن الشيوعيين لا يغتالون ابناء منطقتهم وهذا اتهام باطل". اخذت الاسئلة تتزاحم في رأسي، بحيرة وغرابة سألته : "لماذا يتم عقد ندوة بالذات في قريتكم"؟

سحب نفسا عميقا وكان مازال الغيظ يغلف كلماته "كانت لديهم معلومات بانني اروّج لأفكار حزبنا الشيوعي، لهذا عقدت تلك الندوة المشؤومة في قريتنا، ثم تم اعتقالي بعد اسبوعين، وبالتحديد شباط 1976 من قبل جهاز الامن في دهوك ، وسفرت الى سجن كركوك . بعد ذاك صدر الحكم عليّ بخمسة عشر عاماً من محكمة كركوك قسم الامن الخاص في قضايا الشمال بحقي، ثم نقلت الى سجن ابو غريب في ايار 1976".

سألته وانا مازلت في حالة من الذهول والعجب: "ماذا كانت التهمة الموجهة لك "؟
اجابني بعد اخذه نفساً عميقاً يملاءه الحزن "حسب قرار المحكمة اني مشبع بافكار الحزب الديمقراطي الكردستاني (وكانوا يسمونه : الجيب العميل)! يومئذ كان السجن يعج بالشيوعيين، ولم يستطع الحزب ان يقوم باي شئ من اجل اخراجنا من السجن".
كان لا بد من سؤاله :"كيف قضيت تلك السنوات الخمس عشر في سجن ابو غريب؟

اتسمت نبرات صوته بالاسى والالم وهو يقول "ايام تعيسة وشقية، كنا نشعر بغضب وحسرة وكمد، فكيف نحن مشاركين في الحكم بوزيرين وفي تحالف مع السلطة. ونحن نقبع في زانزين السجون ! لكن البرجوازية تبقى عاهرة، فعندما تشعر بخطورة وضعها تدافع عن مصالحها بشتى الطرق، الترهيب والترغيب وشراء الذمم، الا اني لم اتنازل عن مبادئي ابدا" . بعد ان صمت لبرهة استدرك قائلا : "نتيجة قرارات الحكومة السنوية بالعفو عن المسجونين ، مكثت اربع سنوات فقط من الحكم وتم الافراج عني، فالتحقت مباشرةً بحركة الانصار في ايار 1982.

بصوت يمزقه النواح اكملت ام نزار مأساتها : "لكن السلطة لم تتوقف قط عن ملاحقتنا في دهوك ، مما اضطرنا للهروب وهذه المرة مع عوائل اخوانك ايضا خوشابا وعمانوئيل وشليمون (سعدو) الذي التحق بصفوف الانصارعام 1984، وها نحن ذا اليوم نهرب مرة اخرى"! بعد سماعها لقرار ترك مقر الفوج نظرت بأسى الى دجاجاتها متحدثة إليهم "اني اعلم ان نيران القصف سوف تلتهمكم وتمزقكم ارباً ، اعذروني لا استطيع حمايتكم ، فانا لا اعرف الى ماذا سيؤول مصيرنا".كانت تذرف الدموع ، كحبات المطر على خديها تساقطت .
 
يومذاك كانت عملية الانفال قد بدأت في نهاية اب 1988، ومعها استهلت مسيرة الآلآم الى المجهول. طوابير الكتل البشرية نساء واطفالا وشيوخ من سكان القرى، وبيشمركة الاحزاب الحليفة وعوائلهم مع الأنصار الشيوعيين، يجاهدون لعبور الشارع بأتجاه قريتي (هرور وقمرية)، مستمرة في صعود المرتفعات الجبلية وهبوط الوديان خوفا من القصف المدفعي العشوائي على قرى منطقة برواري بالا.

لم يكن امامهما خياراً اخر سوى دخول الاراضي التركية، مع العوائل ، بعد ايام حصلا على خيمة في مخيم ماردين.عن حياة المخيم وماذا يتذكران منها قال ابو نزار : "ايام لا تقل تعاسة وسوء عن ايام السجن، البرد القارس في الشتاء، والحر الذي لا يطاق في الصيف، بالاضافة الى انعدام مستلزمات الحياة الضرورية الماء وايضا المرافق الصحية، التي كانت احدى اسباب انتشار الامراض بين الناس في المخيم".

عن فرارهما من المخيم ووصولهما الى سوريا يقول ابو نزار بحزن والم كبيرين "في ليلة 8 اب 1989 تسللنا ليلاً عبر سياج المخيم الذي تحرسه الكلاب الشرسة والجندرمة، اختفينا تحت الجسر الذي يبعد بحدود 500م عن المخيم حتى انبلج الصباح وحصلنا على سيارة نقلتنا الى ماردين ومن هناك استلمنا الدليل لنعبر الى سوريا. اثناء الظلمة الحالكة عبرنا حواجز الموت، ووقعنا في كمين وجرح اثنان من رفاقنا، واستشهد نورالدين سيد احمد ئاميدي بعد يومين في احدى مستشفيات القامشلي نتيجة اصابته بجراح ، اما الرفيق دلزار فقد اصيب في قدمه وتم معالجته، كان معنا ايضا الرفيق سلام فواز ومجموعة من ابناء رفاقنا بحدود عشرة اكبرهم عمره لا يتجاوز ال(14) عاماً. ولاحقاً ومن الشام لجئنا الى مملكة السويد حيث نعيش فيها حتى الان."

زادوق وزوجته ام نزارشتاء (كلي هصبة)1987




لقائنا في الدانمارك يوم 30 نيسان 2017
 

(*) ابو نزار (زادوق اثنيل شليمون) مصاب بأزمة الربو وما زال يعاني منها ، والده اول شهيد في بهدينان (تشرين الثاني 1961) ضمن بشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني  . جددنا حوارنا بعد فراق (كلي هصبة) ومخيم ماردين والانفال في 30 نيسان 2017 في الدنمارك.




 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter