|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  28 / 1 / 2014                             وردا البيلاتي                              كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

أمــــي

وردا البيلاتي

ليس هناك في الدنيا إمرأة واحدة تهب كل حياتها، وكل حنانها، وكل حبها دون أن تسأل عن مقابل إلا الأم، لن اسميك إمرأة ، سأسميك كل شيء. (محمود درويش)

ليس من السهل عليّ في هذه اللحظة العصيبة والصعبة الكتابة عن امي .. تلك الانسانة التي حملتني بين احشائها، وتحملت الآم المخاض كي ارى النور في ذات شتاء قارص بمدينة كركوك.. كنت فرحتها التي خافت عليها من التلاشي او الزوال،لاني ولدت ضعيفاً، فنذرت ان يكون تعميدي بكنيسة (مارقيوما) في قرية دوري على يد الأسقف (ماريوالاها) في برواري بالا، ومن اجل ايفاء نذرها عبرت الجبال والوديان حتى وصلت الكنيسة التي تقع في كهفاً محفور في منتصف الجبل يطل على القرية.. لم تكن امي تتدخر جهدا او وقتاً من اجل ان انمو واكبر، فسهرت الليالي لتراني صبيا ثم شابا ورجلا ! لقد تحدت كل من كان يقول باني لن اعيش طويلا وصممت في اعماقها على انقاذي مهما كان الثمن .. وها انا ذا الان اقف لاواري جسدها الطاهر الثرى وابكيها.

رحلة طويلة من الذكريات، ربما لا تتسع صحفات كثيرة لها. حينما كنا صغار كانت تأخذنا الى قريتنا كي نستمتع بالطبيعة الخلابة بعيدا عن ضوضاء المدينة، يومئذ كانت والدتي تملك ماكينة الخياطة، وما ان نصل القرية حتى يتوافد نساءها على امي يحملن اقمشتهن، لأنها كانت تخيط فساتينهن بالمجان وهم يجازينها بالمقابل بالحليب واللبن. هكذا مكثنا حتى ثورة ايلول الكردية 1961، بعد ذلك لم ازر قريتنا، إلا وانا احمل السلاح ضد السلطة الدكتاتورية.

في احد الأيام من سنة 1978 ، كنت اجلس في الغرفة لوحدي ، لاحقتني نظرات الوالدة التي كانت تتربص بي، وفجأة سالتني " منذ فترة لم ارِ رفاقك يزورونك كما في سابق الايام ماذا حدث ؟؟" وكأن هناك حمل اثقل عليها ارادت التخلص منه حيث قالت بسرعة " أتعرف يا بني ان ( كلاب الامن ) جاءوا يسألون عنك؟ انت الان مكشوف لهم والبيت مراقب وانا اخاف عليك منهم لانهم لن يرحموك !"
مضت الايام واشتدت الحملة ضدنا ، وعندما اخذت بحرق الاوراق وبعض الكتب الممنوعة، اقتربت مني ناصحة "لا اريدك يا بني ان تهان من قبل هؤلاء الحثالة ، لذلك ليس امامك سوى طريق واحد هو ان تحمل السلاح وتمضي الى الجبال، فالموت اشرف من العيش بذل!" حفزني كلامها لاتخاذ اصعب قرار في حياتي بحمل السلاح والتوجهة الى الجبل.

فصول تأتي وتغرب، وسنوات عديدة وطويلة تمر، والأم تحلم ان ترى ابنها بين رفاقه حاملي السلاح.. وعندما اشتد بها الاشتياق، ونخر الخوف قلبها لم تحتمل مزيدا من سنوات الفراق، جاءت لتراني ، فقد وصلني خبر من مختار (كوندي كوسا) صيف 1985 ، بان امي موجودة في دار المختار. وصادف وجود سريتنا في قرية (بابوخكي) على الجبل الابيض. اشتد بي الحنين لرؤيتها وقبل شروق الشمس اتجهت ورفيق اخر الى قرية (كوندي كوسا)، ما ان وصلنا قمة الجبل التي تشرف على القرية، حتى نظرت من خلال الناظور، فرأيت امرأتان تلبسان ملابس تختلف عن ملابس نساء القرى، عرفتهما حالا فأسرعت الخطى كي اشم رائحتها وارمي نفسي في حضنها واقبل يديها وراسها..

من الصعب وصف، ذلك اللقاء، بكينا بلا دموع، فمرة تحتضنني يداها ومرة اخرى تقرب وجهي من وجهها، ربما لتتأكد باني انا ابنها !! كنت احس بلهفتها دون ان تنبت ببنت شفة.. بعد حين امطرتني بأسالتها عن كل صغيرة وكبيرة،علها تطمئن وترتاح من قلق دام طويلا ! في المساء تجمع اهل القرية فقضينا سهرة ممتعة وصدح المختار بالغناء بمناسبة لقاء الأم بابنها المقاتل.

بعد عامين كان لقاءنا الثاني، حينما وصلت مع بعض العوائل التي لجأت للجبل، بسبب مضايقات الأمن والاستخبارات الصدامية لهم . بقينا معا يومان في قرية (موسكا برواري بالا) في بيت شهيد الأنفال نمرود، وعائلة الرفيق ابو نزار.. يومئذ طلبت من المختار الشهيد ننو، جلب حصانه لتوصيل امي الى الشارع العام. وما ان طلبت منها وضع قدمها على راحة يدي، كي يتسنى لها الصعود على ظهر الحصان حتى نهرتني بصوت عالِ "انا ابنة الجبل ابعد يدك" !! ثم سحبت الحصان لاقرب صخرة ، وبحركة سريعة قفزت من الصخرة لنجدها على صهوة الحصان. وقبل ان نصل الى موقع الربايا ودعتها وتركتها لتجتاز الطريق وحدها ..

لن انساك يا أمي .. ولن يغيب ذكراك ابداً


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter