|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء 25/10/ 2006                               وردا البيلاتي                              كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

عشر سنوات على رحيل الرفيق توما توماس


ابو جوزيف الاب والرفيق والصديق

وردا البيلاتي
wardaa@ofir.dk

              

اكثر من دلالة تكشف عن اصالة معاني القيم الانسانية الرصينة التي لازمت حياة العديد من الشخصيات التي اسهمت في ارساء مبدأ التضحية والاقدام لخلق حالة النموذج الايجابي للقائد في معارك الحياة اليومية، تلك المعارك الوطنية التي اسهمت في تراكم الاحداث وصياغة تاريخ الحركات والشعوب. هكذا قدم شعبنا الاشوري قادة عرفهم التاريخ، وكانت مواقفهم الشجاعة هي التي بددت عتمة التاريخ وحققت مجدالانتصار على الاعداء، لتسهم في كتابة تاريخ العراق السياسي عبر سنوات النضال التي تعرض فيها شعبنا الى شتى صنوف الحروب الخارجية، او الداخلية، التي كانت تحركها قوى مشبوهة لفرض هيمنتها ومخططاتها من اجل قتل روح التطلع لحياة حرة كريمة يمكن ان يعيشها الانسان الذي لم ينقطع يوما او يتوارى عن الاسهام في معارك النضال اليومية في بلاد وادي الرافدين.

كانت الاسابيع الماضية حافلة في استنهاض مآثر الرفيق الراحل توما توماس ( ابو جوزيف) من قبل رفاقه ومحبيه، حلقت الكلمات من صديق الى رفيق الى قريب لتستجمع صورة الانسان المتواضع والقائد الذي اقترن ذكره ليس فقط بسماته الشيوعية وانما بالبعد الاجتماعي لعلاقاته اليومية وسط محيطه الذي جسد فيه صورة الاب والصديق والرفيق.

جذبتني الذاكرة وبحماس لكتابة بعض ما تختزنه من ذكريات عن الرفيق توما توماس، ثمة محطة اخرى استوقفتني من حيث لا ادري، ربما اسرار التاريخ ورائحة القرى الاشورية التي تعرضت لهجوم برابرة التاريخ استفزتني لربط الكتابة عن الرفيق توما توماس بالاستشهاد بكتب التاريخ والتعريج على شخصية اشورية اخرى كانت تحمل ذات الدلالات والقيم الاصيلة النبيلة، وان كانت تقف في الطرف المقابل الذي كان يقف فيه الرفيق (ابو جوزيف) من الناحية الايدلوجية. لكن ما يجمعهما هو حب الناس واصالة ووعي الموقف، انها شخصية البطريرك مار بنيامين.

كان البطريرك الشهيد الديني الروحاني ذا شخصية لا تتقاطع مع شخصية توما توماس، الشيوعي العلماني، بل جمعهما التوافق في نبل الهدف وسمو النفس من اجل قيم الدفاع عن شرف الامة. شخصيتان احداهما روحانية والاخرى علمانية تنتميان لشعب واحد. تجلت صفاتهما بمبدأ نكران الذات اللذان قدماه حبا واخلاصا لوطن سكن في قلبيهما، وضحوا باقرب اعزائهم من اجله (الابن بالنسبة للرفيق توما توماس والاخ بالنسبة للشهيد البطريرك مار بنيامين).

مرت عشر سنوات على رحيل الرفيق ابو جوزيف، ابن مدينة القوش المتباهية برجالها،وثمان وثمانون عاما على رحيل البطريرك مار بنيامين رئيس كنيسة المشرق العالمية الذي استشهد في السادس عشر من مارس من عام 1918، حين كان في ضيافة آغا سيمكو شكاكي الذي ينتمي الى احد العشائر الكردية الايرانية. " رافق سيمكو البطريرك حتى بوابة الدار وقبل يده، وعندما جلس البطريرك في عربة الخيل الناطرة اطلق سيمكو النار في ظهره وارداه قتيلا ثم اطلق اخ سيمكو النار من مسدسه مكملا بذلك قتل البطريرك.(1) "

كان الموقف الشجاع للبطريرك في عهد الدولة العثمانية يقترن بقوة ارادته وأصراره على تحرير شعبه من السلطة الشوفينية العثمانية التي اضطهدت،وبكل الوسائل الهمجية وغير الانسانية، ابناء كنيسة المشرق الاشورية لقرون. وازاء تلك السياسة الشوفينية الرعناء لم يكن امام القائد والزعيم الروحي مار بنيامين الا طريق التحالف مع قادة وزعماء العشائر الاشورية والاتفاق على الانضمام الى قوات التحالف الروسي البريطاني ومحاربة الجندرمة العثمانية. كان عمله هذا بمثابة استفزاز للسلطة العثمانية التي حاولت وبكل الوسائل اقناعه بالتراجع عن موقفه هذا. وحين لم تستطع تحقيق مآربها قامت القوات التركية بقيادة والي الموصل حيدر بيك وبمساعدة قائمقام جولامرك بشن هجوم واسع في 28 حزيران من عام 1915 على الاشوريين ، وسرعان ما وصل الاعداء الى قرية مارساوا حيث فتحت لهم الطريق الى الجبال مباشرة. لكن الاشوريين الذين تسلموا السلاح الذي جلبه مار بنيامين تحولوا الى الدفاع الايجابي وطردوا العدو من قرية مارساوا وواصلوا تقدمهم حتى قرية ديروا حيث الحقوا الهزيمة بالاتراك. وعلى اثر هذه الهزيمة لجأ الاتراك الى التهديد والتهويل.

وفي العاشر من آب عام1915 تسلم مار بنيامين من والي الموصل حيدر بيك رسالة كتب فيها " اخوك هرمز هو في يدي واذا لم توعز لرجالك بالكف عن القتال فسيكون مصير اخيك الاعدام" (2). كان على البطريرك مار بنيامين ان يختار بين مواصلة الحرب او الخنوع امام العدو العنصري الشوفيني الذي اضطهد الشعب الاشوري لقرون عديدة لضمان سلامة اخيه.لكنه قال كلمته المشهورة لمواصلة الحرب على الاعداء، والتي تركت صداها الكبير على ابناء امته (( شعبي كله هو اولادي وهم كثيرون وهرمز هو اخي ولكنه واحد فقط، لذلك فليقدم حياته قربانا لامته)). بعد هذه الكلمات نفذ حكم الاعدام في مدينة نينوى الاشورية بأخيه، وكان بذلك رمز للتضحية في سبيل الاخرين. وقد اشاد نائب القنصل الروسي ر. تيرمن بموقف البطريرك مار بنيامين بقوله (( انه كان الانسان الهادىء الحكيم)) (3).

كانت المساومة واحدة من قبل الاعداء بالنسبة للبطريرك مار بنيامين والرفيق توما توماس وهي مقايضة الاحبة من الاخوة والابناء والزوجات بقيم النضال والاخلاق، وكان هذا هو الاسلوب الذي اتبعته الحكومات الدكتاتورية المتعاقبة لكسر ارادة المناضلين. لقد كنت قريبا من الرفيق النصير الصديق والاخ والاب ابو جوزيف، والحديث عن مواقفه الوطنية والسياسية والاجتماعية كثير ما تجلى بمشاركته الفعلية في ساحات المعارك على ارض الوطن وخارج ارض الوطن، وتحديدا دعمه لحركة التحرر الكردية ومساهمته الى جانب الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني، خاصة في مدينة بانه، الى جانب الرفاق الانصاربمقاتلة الاعداءعلى الجبهة الاخرى. ورغم ما كتب عنه فان ذاكرتي تحفظ له مشاهدات كثيرة من خلال معايشتي له عن قرب يوم كنت مسوولا عسكريا لموقع قيادة الحزب الشيوعي العراقي لفترة معينة ومن ثم انتقالنا الى موقع بهدينان، وكذلك لقاءاتنا يوم كنا في سوريا.

كان انطباعي عن الرفيق لا يحيد عن تلك الانطباعات التي عرفت عنه، لكن ما ترك تأثيره بنفسي ذلك الموقف المتميز الذي اظهر فيه رباطة الجأش والقدرة على ممارسة مهامه رغم قوة الصدمة وفجاعة الحدث. ففي الخامس من يناير عام 1981 قامت زمر سلطة البعث الفاشية بإختطاف ابن الرفيق( منير). ومن ثم اعدامه مع مجموعة من المناضلين ، بلغ عددهم 16 اغلبهم من مدينة القوش في محافظة نينوى، كما اظهرت فيما بعد قائمة عثر عليها بعد سقوط الصنم الدكتاتور. كان منير في عنفوان الشباب فقد انهى دراسته كمساعد طبيب وعمل في مدينة الحضر.

كان هدف البعث اضعاف موقف الرفيق بين الانصار وبيشمركة الاحزاب الكردية وسائر القوى السياسية. لكن الرفيق ابو جوزيف لم يعرف الانكسار او الضعف والهوان. لم نشعر نحن المقاتلين يوما علامة ضجر او شكوى اوملامح تردد توحي بأن لدى الرفيق ابنا معتقلا لدى السلطة الفاشية. كان يشد من ازر الرفاق ، تغمره امواج الفخر والاعتزاز، ولم تغادره مرة الثقة بمستقبل حركة الانصار والاحساس بأنتصار قضيته العادلة.

في مجالسنا المسائية في مواقع الانصار، ومسابقات الشطرنج ، والنكات التي لم تنقطع يوما بين الرفاق ، كانت الابتسامة لا تفارق محياه ، ويوم استشهد رفاقنا في معركة قزلر وفقداننا كوكبة من احبائنا الرفاق لم يذق ابو جوزيف طعم النوم لايام ، كان ينظر الى المقاتلين ليس فقط كرفاق بل كأبناء له ، هكذا تعرفنا الى صفات هذا القائد الانصاري خلال عقد من الزمن. فلتكن ذكرى رحيله ناقوس في وجدان كل وطني غيور من اجل وطنه ودعوة الى كل من ينادي بأسم القومية ان يكن مستعد للتضحية ونكران الذات في سبيل الاخرين، ونتذكر دائما اولئك الجنود المجهولين اللذين نذروا حياتهم لسعادة شعبهم ، ونقف اجلالا لهم في ذكرى استشهادهم لما قاموا به من دور في تاريخ الامة.

فمرحى لذكراك ايها المربي الراحل ابو جوزيف .
 

 

(1) الاشوريون والمسألة الاشورية في العصر الحديث. ق. ب. ماتفييف ( بار متي ) .
(2) نفس المصدر.
(3) نفس المصدر.

 

 
 
 
 
 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter