|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  17 / 2 / 2017                             وردا البيلاتي                              كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

غيوم سوداء في سماء كركوك

وردا البيلاتي
(موقع الناس)


استرجاعي لتلك اللحظات الرهيبة من فجر ليلة باردة مازال يشعرني بالخوف والرهبة.كانت شمس الفجر قد كست جدران البيوت، والشوارع بحمرتها الارجوانية، حركة غامضة،وصدى اصوات مسموعة احيانا، وساكنة احيانا اخرى، ساعتئذ كنت انعم بدفء الفراش حينما علا ازيز الرصاص، كما لو انه يأتيني من عمق حلم ثقيل. نهضت مسرعاُ لأتبين حقيقة ما اسمعه، فقد ازدادت وتلاحقت زخات الرصاص، فما كان مني الا أن لبست ما يقيني البرد، وانا في طريقي الى الباب لمحت امي وهي توقد المدفأة النفطية، كما تعودت كل صباح. تسللت خارجاٌ للشارع دون أن انبس ببنت شفة، رأيت بعض الناس يركضون عائدين الى بيوتهم وسمعت بعضهم يقول ثورة والاخر يقول انقلاب.

بدأ الشعور بالخوف ينمو في اعماقي، لم اتمكن من تبيان سبباُ له وما أن نفذت اشعة الشمس الصباحية شيئا فشيئا معلنة عن نهارٍ جديدٍ حتى انجلى ما كنت اتوجس منه. لقد حدث انقلاب بعثي على ثورة تموز هذا ما سمعته من المقربين مني. عم مدينتنا الفزع والتوجس من القادم،وتواردت الاخبار عن الاعتقالات والقتل والتي شملت العديد من اصدقائنا واقاربنا،واصبح منظر المسلحين وهم يجوبون الشوارع بزيهم العسكري حاملين اسلحتهم الرشاشة مهددين الناس بالقتل في أي لحظة، منظر يومي وعادي، فيما بعد عرفت انهم الحرس القومي. كما انتشرت مقراتهم بين الأحياء السكنية وتحول القسم البلدي الخامس في محلتنا الى مقر قاطع لهم . في تلك الاثناء وفي خضم الهلع من الحرس القومي كلفني الصديق يوخنا بايصال نشرة اخبار لبعض اصدقاء الحزب، لم اتوانَ عن ذلك فتوجهت صباحا بعد أن فتح منع التجوال الى العنوان، وعندما دخلت البيت كانوا ما يزالون نياماٌ في افرشتهم، فاخرجت النشرة من بين ثيابي قائلا لهم "هذه هديتكم من يوخنا" ارتبكوا وطلبوا مني أن اخبره بعدم ارسال أي شىْ لهم بعد ذلك، وما ان مضت بضعة ايام من تلك الحادثة تم اعتقال يوخنا وزج به في أَحدِ المعتقلات ليواجه التعذيب الوحشي من قبل الحرس القومي، حاله كحال المئات من رفاق الحزب الشيوعي. من الاحداث التي ما زلت اذكرها في تلك الفترة العصيبة التي مررت بها، فقد كان لي صديق يكبرني ببضع سنوات، حينما علم باعتقال يوخنا، اصابه الهلع وكان متوترا جدا، ورغم اني حاولت تهدئته بقولي اننا غير منتمين الى الحزب، إلا أن ذلك لم يرحْهُ او يطمئنه، فأخبر اخوه الاكبر واعترف له، بأنه كان يستلم مني بعض منشورات الحزب الشيوعي، والتي كان يحرقها اولا بأول، بعد ذلك علمت انه انتقل الى منطقة دشت نهلة في قضاء عقرة، ومكث في (قرية كشكاوا) لدى اقربائه، وبعد فترة وجيزة علمت بترسيمه كشماس للكنيسة ليبعد عنه أي شبه، ثم انقطعت اخباره.

بالرغم من مرور سنوات طويلة على ذلك الانقلاب المشؤوم، لكني لم انسَ ابدا تلك المشاهد الرهيبة والتي اتسمت بالدموية والعنف الوحشي، حيث الاعدامات بالجملة في مركز مدينة كركوك شهدتها ثلاثة مواقع فيها، شارع جمهورية بداية سوق القورية امام مقهى احمد اغا ثم امام محكمة كركوك مقابل دائرة الانضباط العسكري، وفي الشورجة قرب القلعة نصبت المشانق للابرياء.

لم تمر سوى بضعة اشهر على تسلم البعث السلطة سنة 1963، عندما اخذت احدى السيارات العسكرية التابعة للحرس القومي، تجوب شوارع وازقة كركوك لأعلان ومن خلال مكبرات الصوت المثبتة عليها عن اعدام المجموعة التي قامت بأحداث كركوك، الذين حكم عليهم في عهد قاسم بالسجن الموبد
(*). حيث لم تتم عملية الاعدام كما اعلنها، انما جلبوا تسع جثث، كانوا استشهدوا تحت التعذيب وقد شدوا الحبل على رقبة كل واحد منهم ليتم تعليقهم امام الناس، وقد كتب اسم كل ضحية على صدرها. لقد شاهدت بام عَيني مجموعتين من النساء الاولى تبكي بصمت على شهدائها، والاخرى ترقص وتزغرد فرحا لاعدامهم، اما المشهد الثاني الذي يتسم بالهمجية فقد كان امام باب المحكمة، فقد تعالت الزغاريد وتم ذبح القرابين فرحا بالاعدام، وقد كان من بينهم رئيس بلدية كركوك معروف البرزنجي (**) وهو في حالة يرثى لها فقد قلعت عيناه، وأكتسى وجهه اللون الأزرق، واثناء تعليقهم لجثث الضحايا تقدم شخص ما وبيده سكين كبير (قامة) فغرزها في جسد احد المعدومين، عندذاك تدخل احد العساكر لمنعه! فما كان منهم سوى الاسراع بانزال الجثث من الأعمدة وتم تفريق الجمهور. يومئذ لم اكن اعرف لماذا قادتني قدماي الى تلك المواقع التي شهدت قتل الناس بهمجية ووحشية لم يستطع عقلي ان يتحملها ، مما دفعني بعدم الذهاب للموقع الثالث، فقد فاضت روحي بالحزن والاسى على الضحايا الذين بلغ عددهم في ذلك اليوم فقط 28 شخصاُ، بالرغم اني لم اكن اعرفهم او ترطني بهم أي صلة.

في طريق عودتي للبيت دخلت صالون حلاقة رغبة مني في تبديد الغصة والاستياء اللذان كانا يغليان في داخلي، وبينما كنت انتظر دوري سمعت احاديث بعض الزبائن حيث قال احدهم " اليوم حتى السماء حزينة" !! تكلم رجل اخر وهو يتحسر" ليست حزينة فحسب بل لقد بكت السماء ايضا هؤلاء الضحايا"! اما الرجل الثالث الذي كان على ما يبدو يعرف معروف البرزنجي عن كثب فقد قال " اشهد انه شخص نزيه، وليس له أي علاقة باحداث كركوك" يومها ايضا علمت بان احد الخياطين الذي كان محله جار لمحل خالي قد اعتقل، وتهمته المشاركة في احداث كركوك، رغم انه كان وقتئذ في بغداد،لكن السبب الحقيقي لاعتقالهِ هو انه كان يخيط ملابس عسكرية للمقاومة الشعبية، والذي اعدم مع مجموعة 28 في كركوك. هذه المجزرة التي ارتكبها الحرس القومي لم تكن إلا القليل مِما حدث في تلك الايام.


(*) بعد مجيء حزب البعث تم استئناف المحكمة من قبل اهالي الضحايا من التركمان، ليتم اصدار الحكم بالأعدام شنقاُ وتم تنفيذه في كركوك وامام الجماهير.
(**) (معروف البرزنجي) كان احد ابطال كركوك الذين ماتوا تحت التعذيب بالسجن في 23 حزيران 1963، كما انه كان احد سجناء احداث 59.
 


 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter