|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الخميس  20/12/ 2012                                 وجدي العاني                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

نذر الشؤم

وجدي العاني

كنت طفلا، بل شيطانا صغيرا سقط في هوة الدلال وبه غرف الكثير من حب الأهل وعشقهم وحنانهم حتى راح يتمادى في طلباته التعجيزية أحيانا.. لكن الجميع كان يتسابق لتلبيتها حبا بالكائن الصغير وارضاء لعواطف أمه والتي طالما شاركته دموع دلعه ونزقه وهي تعرف حقيقة تماديه ولكن هذا هو قلب الأم الرؤوم. كانت تعرف ان ابنها البكّاء يتحايل بذرف الدموع لينال بغيته ومراده.

وكنت أسعد بحيلي المكشوفة للجميع..وفي صباح أحد الأيام الكئيبة الغائمة طلبت من أمي الحبيبة مصاحبتها الى السوق الصغير الوحيد في مدينتنا، تحججت بالبرد وامكانية نزول المطر فنذره تلوح في الأفق وقد انتشرت الغيمات السوداء في أنحاء متفرقة غطت ضوء الشمس فزادت كآبة اليوم.

وبرغم تشاؤمي وخوفي وتوجسي واحساسي بأن شيئا ما سيقع كنت تواقا لزيارة السوق وليحدث ما يحدث فانا بصحبة أمي. وأمام اصراري كعادتي تحقق ما أردت، حين أمسكت بيدي بعد ان قبلتني بكل حنانها ومسحت من عيني دموعي الكاذبة وساقتني معها والفرحة تشع من حركاتي وكأني أطير نحو الشمس المختفية خلف الغيمات.

وقبل ان تبتاع أمي أي حاجة من حاجات البيت اشترت لي عربة صغيرة حمراء كانت تغمز لي من بين الحاجات الملونة المكدسة فوق رفوف الدكان ألهتني عن متابعة تساؤلاتي اللعينة وألجمت لساني في حلقي. وأمي في كل مسيرتنا لم تترك يدي. لذلك سحبتني نحو بائعة الخضار المفترشة الأرض المبللة بأمطار الأمس وابتاعت كميات صغيرة من أنواعها العديدة كدستها البائعة البدينة في كيس النايلون الشفاف حملته أمي بيدها الأخرى وأعطتها ثمنه واتجهت نحو القصاب صاحب اللسان القذر، حتى ان النساء كن يتجنبن الحديث معه. وقبل ان تشير الى نوع اللحم الذي ترغب، توقفت حين ضجت الدنيا من حولنا بصراخ امتزج باللوعة والألم خرج من أعماق أمرأة تجاوزت الثلاثين من عمرها سقطت عنها عباءتها وهي تتلوى بين يدي رجل في نفس عمرها .. صراخها تفاعل مع صرخات تعالت من بعض النسوة هنا وهناك. ارتجف جسد أمي وأمتدت كفها لتغطي وجهي .. فزعت ولا أدري بعد حقيقة الأمر .. صراخ يخرج من فم المرأة الممتزج بالبكاء وصوت الرجل الأجش.. ملئا قلبي بالرعب .. الرجل كان يصرخ بكلمات لا أفهمها.. وضاعت توسلات المرأة المسكينة وهي تستنجد بمن حولها.. ندت منها صرخة وكأنها خرجت من جوف الأرض لكنها ذهبت أدراج الريح.. فلا أحد من المرعوبين يقوى على فعل شيء وبدا الأجش كعفريت اخرج عشرات الرؤوس من تحته وراح يحمل سكينا طويلة حادة لمعت بضوء الشمس المختفية خلف السحب السوداء اللعينة وانا أحاول أن أختفي خلف عباءة أمي المرتجفة واهتزازازت جسدها ... صرخت المرأة نصف العارية باكية: أخي .. كن رحيما بي .. ففي الدار ينتظر أطفالي عودتي لأشبع جوعهم ولا أحد لهم غيري . لكن الأجش الذي يمسك بخصلات شعرها الطويل بقبضة يده الفولاذية ويسحبها كالشاة الى المجزرة يهوي بالسكين اللامعة على جسدها الملتاع الخائر على الأرض .. تصرخ.. فتهوي السكين ثانية على الجسد ولكن الصرخات الباكية تنهار هي الأخرى وتكاد تموت .. لا أحد يعطف على المسكينة فينجدها من بين يدي الجلاد غير سماء كانت ملبدة بالغيم تشاركها صرختها.. صارت اصوات الرعد كالموسيقى الصاخبة خلف دماء المشهد المرعب ..السكين تلطخت بدماء المسكينة والجسد والأرض.. والناس أصابهم الهلع وساد سيف الصمت المؤلم أفواه الناس..صمتت المسكينة تحت يدي الجلاد.. جسد مطمور بالدم كينبوع ينثر ماء الارض سدى..وخفت صرخات الرجل الأجش وردد: لقد طمرت عاري.. طمرت عاري.. سقط كيس الخضار من يد أمي وأرتفعت هلاهل بعض النسوة وصفقّ بعض رجال السوق وهنأه البعض الآخر بالقبلات وبالصرخات الخجلة. وسحبتني أمي معها وهي تجر خطاها مبتعدة عن بركان المأساة .. سحبتني أمي الصامتة نحو الدار.. أمي نسيت عباءتها وقد سقطت من فوق الرأس وجرتني بيديها المرتجفتين وأنا أكاد أسمع دقات القلب الملتاع وهو يدق طبول الحرب .. تعبت.. وحين وطأت قدميها أرض الدار أفلتت يدها وتوسدت سريرها .. رمت بجسدها فوق فراشها وراحت في سبات كالموت.

ما نبست ومنذ عادت من العرس الدموي .. ثلاثة ايام مرت وهي كما جاءت صامتة..يسألها ابي فيعود يسألني وجدتي تبكي وتحتضنني..طلب منها أبي مصاحبته لطبيب المشفى لكنها أشاحت بوجهها وعاد الصمت يجثم على فمها .. جدتي أصرت فجاء أبي بطبيب المشفى وأدخله على أمي .. وبعد الفحص قال: المرأة قتلها الرعب .. وعليها ان تستعيد عافيتها بالأكل ، لكن أمي أبت ان تأكل شيئا.. وما شربت جرعة ماء أبدا.. وفي اليوم الثالث سحبتني نحوها وضمتني بكل حنان للصدر الملتاع وقبلتني وكأنها تودعني .. تراخت يديها وبدأت أنفاسها تهرب منها.. لم يبق غير عينيها الساهمتين وجسد بدأ يتخشب..أحسست بان أمي ضاعت مني .. تركتني لخوفي وهربت.. تركتني لوحوش الغابة تنهش بقايا يأسي.. حملها أبي نحو القبر وبقيت أنا وحدي بين جدران البيت .. الآن ادركت فداحة فقدي لأعز وأطيب مخلوقات الدنيا .. فقدت حنان الأم.. فقدت عطفها ودموعها ودفء حضنها ولهيب أشواقها .. لا أملك غير دموعي تهطل كالمطر من عيني لكن بكائي ما عاد يشفع لي .. لأنني فقدت أروع قلب في الكون .. فقدت من يمسح لي وجعي.. وبقيت أفكر بالرجل القاتل..من أعطاه الحق بقتل المرأة وقتل أمي؟!! .. من دس في يده سكينا وقال له كن أنت العدل؟.. من سمح له بذبح الكون ؟ من بارك له اعدام القانون؟


 

6/ 12/ 2012

 






 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter