|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  22  / 8 / 2009                                 د. شابا أيوب                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الكلدان الآشوريون السريان - شعب واحد بثلاث تسميات
(
6)

د. شابا أيوب
(موقع الناس) 

حول مفهوم القومية

يجدر الأشارة الى ان هناك نوعين مختلفين اساسا من القومية:

1- قومية المواطنة والتي جاءت مع الثورة الفرنسية, أي فكرة الوطن الأم, الذي يعتبر فيه كل السكان الذين يعيشون في أراض محددة مواطنين بغض النظر عن أصولهم العرقية أو اللغوية. فمثلا أن مجيد القادم من الجزائر أو المغرب وألفونسو القادم من أنغولا وتشوان القادم من الصين والساكنين جميعا في فرنسا لهم قومية واحدة وهي القومية الفرنسية, ويقول كل واحد منهم عن نفسه (أنا فرنسي) ليس كأشارة الى البلد الساكن فيه فقط, بل كأنتماء قومي[1]

واذا أخذنا بهذا المفهوم للقومية فما علينا جميعا عربا كنا أم كردا أم تركمانا أم كلدانا أم آشوريين ام سريانا أم أرمنا الاّ أن نسمي أنفسنا (عراقيون) - عراقيون وكفى من دون النظر الى الأصول العرقية أو الدينية او اللغوية. ولكن تأثير الثورة الفرنسية على بلدنا والأقاليم المجاورة كان ضعيفا بسبب هيمنة العثمانيين على المنطقة, وممارستهم لسياسات التمييز القومي والديني والمذهبي, أضف الى ذلك صراعهم الطويل مع الفرس للسيطرة على ولايات بغداد والبصرة. وللأسف استمرت سياسات التمييز القومي والديني والمذهبي في العراق حتى في الفترة التي أعقبت التحرر من التبعية العثمانية, وبالتالي لم تدع أية فرصة لترسيخ مبدأ المواطنة, وما زال التعصب القومي والديني والمذهبي يشكل القاعدة التي تنطلق منها المجموعات المتطرفة في الحرب ألأهلية التي اشتد سعيرها بعد سقوط النظام في نيسان 2003, والتي لا تزال تشكل خطرا على مستقبل بلدنا وعائقا كبيرا أمام تقدمه وأزدهاره.

2- هناك نوع آخر من القومية الذي يرتبط بأعادة توحيد الدولتين ألمانيا وأيطاليا.

ففي النموذج الألماني للقومية يجري التأكيد على العرقية (العرق الآري) وعلى أن هناك شعبا ألمانيا مقسما في عدة دول, وأن ذلك يعد بمثابة مأساة تاريخية كبرى, مما يتطلّب أقامة دولة موحدة تتولى تمثيل هذا القوم وروح هذا الشعب, أي هؤلاء الناس الذين يمتلكون (تأريخا مشتركا, تراثا مشتركا ولغة مشتركة), وأنّه يجب توحيدهم في اطار معين وأن يكون لديهم دولة تعبرعن وجودهم التاريخي. ولتبني هذا النوع من القومية من قبل جماعة ما, يجب عليها أن تؤّلف تاريخا يظهر بأنها من أصل واحد ليس عرقيا وجغرافيا فحسب, بل أيضا كحقيقة ترتكز الى الثقافة والأرادة. وأن الناس الذين يمتلكون أصلا عرقيا مشتركا وينطقون بلغة مشتركة يجب أن تكون لديهم بشكل ما أرادة مشتركة, وأن هذه الأرادة المشتركة يجب التعبير عنها في صيغة دولة خاصة بهم. دولة موحدة.

وعلى ما يبدو تأثر القوميون العرب بأفكار الفلاسفة الألمان من أمثال هايديغر وفيخته, وفي معاني القومية الحماسية والعاطفية وفي التجربة الألمانية, منهم بشكل مكشوف مثل ساطع الحصري, ومنهم بشكل مستور مثل ميشيل عفلق وزملائه.

وبتأثير من هذه الأفكار عمدت مجموعة صغيرة وغير شعبية في العراق عبر الأنقلابات العسكرية الى الأستيلاء على السلطة والأحتفاظ بها بقوة السلاح وبأستخدام القسوة والبطش بكل من يعارض نهجها القومي المتطرف (الشوفيني), وذلك عبر تعبئة المشاعر القومية ومن خلال تضليل الجماهير وحجب أنظارها عن ما يحدث في واقع الحال, من خلال افتعال الأزمات الواحدة تلو الأخرى. جرى كل هذا في بلد متعدد الأعراق والأديان واللغات.

ويبدو واضحا مما تم سرده أعلاه, من أننا في سعينا وراء معرفة قومية شعبنا الكلداني الآشوري السرياني, أقرب الى النموذج الثاني للقومية مع فارق كبير في بعض النواحي. وأبرز هذه الفوارق, هو في أستحالة أقامة كيان سياسي مستقل (دولة) في الوقت الراهن ينضوي تحت لوائها كل أبناء شعبنا الكلداني الاشوري السرياني. ان ما ينبغي التركيز عليه في المرحلة الراهنة هو الأقرار بوجودنا القومي وتثبيت هذا الأقرار وأستحقاقاته دستوريا. ومن جملة هذه الأستحقاقات هو حق أبناء شعبنا في ادارة شؤونهم بالطريقة التي يشاؤون من دون ضغط أو أكراه من هذا الطرف أو ذاك, بما في ذلك أقامة حكم ذاتي أو أدارة محلية أو أي شكل آخر يرتأونه مناسبا, وذلك في المناطق التي يشكلون فيها الأغلبية, وكذلك حقهم في الأختيار الحر لشكل ارتباطهم بالحكومة الأتحادية أو بحكومة أقليم كردستان. أن هذه الأستحقاقات تتطلب منا جميعا رص صفوف أبناء شعبنا وتوحيد خطابنا السياسي والسير قدما نحو وحدة شعبنا المنشودة.

في المجال الجغرافي

تشير النبذة التاريخية الى أن تسمية بلاد ما بين النهرين هي تسمية أغريقية جاءت في الفترة ما بين القرنين الرابع والثاني ق.م وكانت تشمل بلاد سومر وأكد (بابل) وآشور, وأن لا حدود طبيعية تفصل بين بلاد سومر وبلاد بابل. بينما هناك خط جغرافي فاصل بين بلاد بابل وبلاد آشور, وهذا الخط الفاصل يمر تقريبا من هيت على الفرات الى سامراء على دجلة. وهذا بحد ذاته كافيا للقول بأن جميع البلدات المسكونة من قبل من نسميهم بالكلدان أو الآشوريين أو السريان في العراق الحالي تقع في بلاد آشور التاريخية ( يستثنى من ذلك الكلدان والآشوريون والسريان الساكنون في بغداد والبصرة والناصرية والحلة وديالى والأنبار وغيرها من المدن العراقية الأخرى) والذين في أغلبيتهم نزحوا من البلدات المذكورة الى هذه المدن في القرنين الماضيين, أي القرنين التاسع عشر والعشرون. أذ لم يتبقى من مسيحيي بغداد ومدن الوسط والجنوب الاّ بضعة عوائل بعد آخر هجمة شرسة تعرض لها المسيحيين في زمن تيمورلنك (للمزيد راجع كتاب " الكلدان في التاريخ" للمؤلف حبيب حنونا).

في مجال التاريخ

وكما أشّرنا قبل قليل, ان أحد العناصر الأساسية للقومية هي أن تؤّلف لنفسها تاريخا.

 مما سبق يتبيّن صعوبة حصر هذا الأرث التاريخي المجيد بدويلة في الشمال او الوسط او الجنوب بسبب كثرة الغزوات والفتوحات (الأحتلالات) في العراق القديم وبسبب تعاقب الدويلات الواحدة تلو الأخرى وانتقال الخبرات والتجارب من مملكة الى أخرى, حيث ينتهي كل احتلال بترك بصمات الدولة المنتصرة على الدولة المغلوبة, والتداخل والتمازج في اللغات والعادات والتقاليد والأعراف والمعتقدات. ويمكننا القول بأختصار عن تأريخنا بانّه سلسلة متتابعة ومتداخلة من الأحداث العظيمة بحيث يصعب الفصل بين حلقاتها المتصلة. وهذا التاريخ ليس أرثا لنا لوحدنا نحن الذين نسمي أنفسنا بالكلدان أوالآشوريين أوالسريان, بل هو أرث لجميع العراقيين وذلك منذ أن جرت تسمية بلاد ما بين النهرين بالعراق. ان ما يميّز نظرتنا الى هذا التاريخ عن باقي أشقائنا من العراقيين, هو أننا نرى فيه عزتنا واقتدارنا ورفعة مقامنا وعطائنا المذهل للحضارة الأنسانية, وبأننا من الذين وضعوا أسس هذه الحضارة, في حين يركز الكثير من العراقيين على الحضارة العربية الأسلامية, وهي حضارة لا يستطيع ألاّ الجاحد نكران منجزاتها واسهاماتها في تطور الحضارات الأخرى التي تلتها.

لكن الحضارة العربية الأسلامية ليست حضارة عراقية بحتة, بل هي نتاج جهد جماعي وتلاقح عدة حضارات منها حضارة وادي الرافدين ووادي النيل والحضارة الفارسية والحضارة الرومانية وتأثيراتها في شمال أفريقيا. وقد ساهمنا نحن الكلدان والآشوريون والسريان بقوة في وضع أسس هذه الحضارة ورفع شأنها عبر الترجمة من اللغات القديمة ومنها اللغة السريانية الى اللغة العربية. ولذلك فنحن كنا ولا نزال جزءا من هذه الحضارة والتي بدورها هي جزءا من حضارات الشرق القديم والجديد. بأختصار لا ترجع كل هذه الحضارة ألينا لوحدنا نحن العراقيين بالرغم من أننا كنا بؤرتها ومركز ثقلها. أما الميزة الأخرى لهذه الحضارة فهي التواصل أي حلقة الوصل بين الحضارات الي سبقتها والحضارات التي أعقبتها, أي أنها ليست حضارة مؤسسة كالحضارة الفرعونية وحضارة ما بين النهرين.

ومن المهم هنا أن نقر جميعا بأن الكلدان ليسوا طائفة دينية كما يدّعي الذين يتعصبون الى التسمية الآشورية, بل هم أقوام سكنوا في بلاد سومر وأكد, وألّفوا عدة ممالك في الجنوب بألأضافة الى الدولة الكلدانية وعاصمتها بابل في زمن الملك نبوخذ نصر الثاني والتي اشتقت تسميتها من قبيلة (كلدو) كبرى القبائل الآرامية التي نزحت عبر الفرات واستقرّت في منطقة الفرات الأوسط في القرن السابع ق.م. أن خلاء مساحات واسعة من هذه الأرض من وجود الكلدان يعود سببه الى الأضطهادات المتكررة لهذا الشعب منذ انهيار امبراطوريته عام 570 ق.م. بسبب تشبثه بانتمائه القومي والديني والمحاولات المستمرة لصهره وطمس هويته التاريخية والحضارية. وهنا أورد بعض المقتطفات التي تشير الى بعض هذه الأضطهادات من كتاب " الكلدان في التاريخ " لمؤلّفه الأستاذ والمهندس حبيب حنونا:

ففي زمن الملك الفارسي (شابور الثاني) (339 – 379 م) أعلنت حربا شعواء على المسيحيين دامت أربعون عاما راح ضحيتها أكثر من 300000 شهيد بحجة موالاتهم للأمبراطورية الرومانية وخاصة بعد أعتناق الملك قسطنطين العقيدة المسيحية, وأعتبارها الدين الرسمي للدولة. وقد أضطر الكثير من سكان السهول- (وغالبيتهم من الكلدان) الى الهرب الى المناطق الجبلية والى مناطق غربي الفرات في سوريا ولبنان وجزيرة قبرص. حيث كان نهر الفرات الحد الفاصل بين الأمبراطورية الفارسية والأمبراطورية الرومانية. وقد استمرت معاناة المسيحيين من الأضطهادات الفارسية حوالي قرنين من الزمان.

وفي حدود 700 م شنّ والي العراق آنذاك الحجاج بن يوسف الثقفي حملة أضطهاد كبرى على المسيحيين, أضطر الكثير منهم الى أعتناق الدين الأسلامي تخلّصا من الجزية, وأضطر الآخرون للهرب واللجوء الى القرى الشمالية وأستقر العديد منهم في منطقة الخابور.

وفي عام 780م وفي خضم الحرب بين العرب والروم. شنّ الخليفة المهدي (775 – 785 م) حملة ضالمة على المسيحيين, أذ سنّ بحقهم قوانين مجحفة حدّت من ممارسة شعائرهم الدينية وأنتقصت من كرامتهم. كل ذلك بسبب شكوكه في ولاء المسيحيين للروم, وأتهامه لهم بالتعاطف معهم, مما أضطر الكثيرون منهم للهرب والألتجاء الى المناطق التي كانت خاضعة لحكم الروم في سوريا وتركيا مثل ديار بكر ونصيبين والرها وغيرها, كما أدّت الى أسلمة الكثيرون منهم.

وحينما تولّى السلطان المغولي (غازان) (1295 – 1303 م) الحكم في بغداد حلّ كابوسا رهيبا على أهل الذمة قاطبة, أذ صمّم هذا الخان أن يقتلع جذور المسيحية في مملكته من أساسها. فأمر بهدم الكنائس وأزالتها من جذورها, ومنع أقامة االصلوات والأحتفالات وقرع أجراس الكنائس. كما أمر بقتل جميع رؤسائهم وكهنتهم. وقد حذا الخان المغولي (خربندا خان) حذو سلفه غازان, أذ أصدر أمرا عام 1306 م يقضي:

"على كافة المسيحيين القاطنين في البلاد أما أن يعلنوا أسلامهم أو أن يدفعوا الخراج. ويدمغوا في وجوههم علامة مميزة, تقتلع لحاياهم, وتوضع علامة سوداء على أكتافهم".

وأستنادا الى مخطوطة كتبها الراهب يوحنا: أن المسيحيين تحمّلوا كل تلك الأهانات, دفعوا الضرائب وبقوا على دينهم. وعندما رأى خربندا أن هذا لم يجد نفعا مع المسيحيين أصدر أمرا بخصي المسيحيين وأن تقلع أحدى عيونهم في حالة عدم قبولهم الأسلام. ونتيجة لتلك القوانين المجحفة والهمجية أضطر كبار القوم وغالبية المسيحيين للنزوح الى جبال تركيا وأيران. وكادت بغداد والمدائن وكشكر(واسط) ومدن أخرى تخلوا من المسيحيين.

ثم جاءت كارثة الكوارث على يد تيمورلنك يوم أحتل بغداد عام 1400 م وعمل السيف في رقاب أهلها دون تمييز. يقول رافائيل بابو اسحق في كتابه " تاريخ نصارى العراق":

أما النصارى فكانت حالتهم يرثى لها. فقد تبدد جمعهم وهربوا لاجئين الى القرى والجبال النائية خوفا من القتل والذبح. وأصبحت مقاطعة نصيبين معقلا من معاقل المسيحية بجانب أبرشيات الموصل والتي عاشت فيها الكنيسة ألى الآن بسبب من تبقوا هنالك من المهاجرين الذين هربوا من غزوات المغول ومذابح تيمورلنك. وفي نهاية القرن السابع عشر فقد خلت بغداد من المسيحيين الاّ من نزر يسير.

الأصول العرقية

أما البحث في الأصول العرقية لأبناء شعبنا الكلداني الآشوري السرياني فهو معضلة حقيقية, نظرا لأستمرار الهجرات البشرية ذات الأعراق المختلفة الى بلاد ما بين النهرين القديمة. فبالأضافة الى السومريين الذين نجهل موطنهم الأصلي والسوباريين سكان بلاد آشور الأصليين, هناك هجرات الساميين والآموريين والأشكوزيين والحوريين والحثيين والآراميين واليهود والأغريق والمغول والعرب وغيرهم.

ان انتصار الملوك الأشوريين في حروبهم مع الدويلات والممالك المجاورة لهم, واتخاذهم سياسة التهجير والترحيل للأقوام التي غزوها, ونقل عشرات الآلاف لا بل مئات الآلاف من الأسرى من مناطق سكناهم الى مراكز نفوذ دولتهم, وتسخير طاقات هؤلاء الأسرى في تشييد المشاريع الكبرى لأمبراطوريتهم, يجعل كل هذا البحث في الأصول العرقية للآشوريين والكلدان والسريان ونقاء عرقهم أمرا في غاية التعقيد. أضف الى ذلك عدم توفر معلومات كافية عن انثروبولوجيا الأنسان العراقي القديم. وقد أفضت هذه السياسة الى اختلاط الكلدان والآشوريين وانصهارهم في بودقة واحدة عبر قرون عديدة, فأمتزجت دمائهم وتوحدت ثقافاتهم وعقائدهم وتقلصت الهوة بينهما وأصبحوا شعبا واحدا بكيان حضاري متميز.

اللغة

ان اصل اللغة التي ننطق بها جميعا هي واحدة من لهجات اللغة الأكدية والتي بدأ تدوينها بالخط المسماري منذ 2500 ق.م ومنذ مطلع الألف الثاني ق.م تفرّعت اللغة الأكدية الى لهجتين رئيسييتين هما البابلية والأشورية. وفي الفترة ما بين القرن العاشر والقرن الثامن ق.م ازدادت هجرة الأقوام الناطقة بالآرامية القديمة الى بلاد ما بين النهرين وازداد تأثير اللغة الآرامية على الآشورية القديمة. وما بين القرن الأول ق. م والقرن الثاني الميلادي (حين كنّا جميعا كلدانا أم آشوريين تحت حكم الفرس) تفرّعت الآرامية القديمة الى فرعين رئيسيين هما الآرامية الشرقية والآرامية الغربية واحتوى كل منهما على عدة لهجات. أن لغتنا الحالية المسماة بالآرامية الرهوية (سريانية الرها) ليست سوى واحدة من لهجات الآرامية الشرقية.

الدين

أشرنا قبل قليل الى فترة حكم الفرس الفرثيين ( 138 ق.م -227 م) والتي اتسمت بكثرة حروب الفرس الفرثيين مع السلوقيين والرومان وخصوصا في تخوم مدن أنطاكية وحرّان ونصيبين وغيرها.

 ففي هذه الأثناء تقدّم رسل السيد المسيح نحو الشرق مبشرين بالديانة الجديدة. ورأى أجدادنا في دعوة المسيحية الى المحبة والسلام والى الخلاص من الخطيئة, خلاصهم أيضا من عبودية الفرس والرومان وأضطهاداتهم المتكررة لقرون عديدة. فكانوا من أوائل الأقوام في المنطقة من الذين دخلوا في الديانة المسيحية. وأسسوا بعد فترة كنيسة خاصة بهم هي كنيسة المشرق[2].

وبسبب غياب سلطتهم السياسية الممثلة بالدولة القومية منذ القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن الأول الميلادي وما عانوه من أقصاء وتهميش في شتى نواحي الحياة, أندفعوا بقوة وبكل وجدانهم نحو مؤسستهم الحديثة (كنيسة المشرق) متخذين من انتمائهم أليها هوية جديدة لهم ولكنها هذه المرة بطابع ديني صرف. ولكي يميزوا أنفسهم عن باقي الأقوام المجاورة سموا أنفسهم بالمسيحيين المشرقيين كما سموا أنفسهم بالسريان بسبب استعمال اللغة السريانية في الطقوس الدينية والتدوين والكلام.

وكما ذكرنا سابقا أن كلمة السريان تعني الناس الساكنين في آسوريا (آشوريا) ولها مدلول جغرافي تاريخي قومي. فهي جاءت كتحريف لكلمة آسوريايي وهي التسمية التي أطلقها الأغريق على الآشوريين في القرون الثلاثة الأخيرة من حكم امبراطوريتهم. ولكن هذه التسمية ذات المدلول القومي أخذت بالأستخدام تفقد تدريجيا مغزاها القومي وتتخذ طابعا دينيا أكثر فأكثر ومن ثم طابعا دينيا صرفا فيما بعد.

فمثلا أعتاد الناس القول عن سركيس الذي هو مجرد مسيحي بأنه سورايا. ولكن هذا أستخدام خاطىء أذا ما كان سركيس هذا أرمنيا أو جورجيا أو يونانيا, ولا يجوز القول عن سركيس هذا بأنه سورايا ألاّ اذا كان سركيس كلدانيا أم آشوريا أم سريانيا (وأكثر تحديدا ألاّ اذا أجاد سركيس لغة الأم السريانية أو احدى لهجاتها). فأذا كنّا نقصد ديانة سركيس وليس قوميته علينا أن نسميه مشيحايا (مسيحي).

من هذا المثال البسيط يتبين لنا قوة وفصاحة استخدام كلمة سورايا (وجمعها سورايي) ذات الدلالات المتعددة التاريخية والجغرافية والعرقية واللغوية والدينية للتعريف بهوية سركيس كسورايا وتميّزه عن باقي أقرانه بألأسم والذين هم من أصول عرقية أو قومية أخرى.

وحول الدين نعلم جميعا أن المبادىء الأساسية للديانة المسيحية واضحة ولا خلاف حولها. ولكن كأية عقيدة جديدة دينية كانت أم فكرية أم سياسية لا تخلوا من اثارة الجدل حول هذه النقطة المحورية أو تلك من بين هذه المبادىء, كما يتطلب الأمر غالبا الى ايجاد تفسير منطقي لها, فينبري الفلاسفة والعلماء والمختصين لأيجاد الأجابات المقنعة على الأسئلة المطروحة. وهكذا كان حال كنيسة المشرق أيضا. فقد أنشغل فلاسفة الكنيسة في البحث في موضوع القديسة مريم العذراء (وسر التجسد والفداء) وفي فترة لاحقة اختلفوا فيما بينهم حول مبدأ الطبيعة الواحدة للسيد المسيح. وقد أدّت هذه الأجتهادات الى أيجاد تفسيرات مختلفة نتج عنها عدة انقسامات وظهور المذاهب المسيحية المعروفة الآن. لا أود الخوض في تفاصيل هذه الأنقسامات وأسبابها, لأن هذا شأن كنائسي بحت ولا حاجة لأدراجه هنا, بل أكتفي بالتنويه الى الدور الكبير والخطير الذي لعبته الأهداف الدنيوية والمصالح الشخصية وشهوة السلطة, الى جانب االصراع الدائر بين الفرس والرومان للهيمنة على المنطقة, في تعميق هوة الخلاف وزيادة حدة الأنقسامات.

وللأسف تستمر حالة الأنقسام هذه الى يومنا هذا على الرغم من تعرض رعايا الكنيستين الى العديد من النكبات والكوارث والمحن, نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر حملة الأبادة الجماعية لرعايا كنيسة المشرق الآشورية على يد الأتراك أبان الحرب العالمية الثانية والتي راح ضحيتها ما يزيد على 350000 في اقليم هكاري والمناطق المجاورة, ونكبة سميل في آب 1933 التي وصل عدد القتلى من 5 الى 6 آلاف أنسان كما تجاوز عدد القرى المهدّمة 95 قرية[3]. ولم تفلح كل الجهود الخيرة التي بذلها الطرفان في توحيد شطري كنيسة المشرق الكلدانية والآشورية بسبب الشروط التي يفرضها هذا الطرف على الآخر. وغالبا ما تتدخل جهات أجنبية لتعيق التقارب وتقف حجر عثرة في طريق تحقيق الوحدة المنشودة.

ومع ذلك ظلّت كنيسة المشرق عبر مسيرتها الطويلة هي الحاضنة الرئيسية لكل من آمن بالمسيحية من الأقوام والملل التي سكنت بيت نهرين (العراق – سوريا شرقي الفرات – جنوب شرقي تركيا – غرب ايران) سواء كان كلدانيا, آشوريا, آراميا, فارسيا أم من أي قوم آخر. أي أنها كنيسة جامعة شاملة لاتختص بقومية معينة دون غيرها ولا تفضل هذه الملة على تلك. فالأنتماء العقائدي كان دوما ينبوع المحبة والرجاء و القوة الكامنة في مواجهة الأخطار وتحدي الصعاب.

 

(1) لا يشمل هذا الكلام بطبيعة الحال المتطرفون دينيا والذين يعطون للدين المقام الأول - الكاتب.
(2) لمعرفة المزيد من التفاصيل حول كنيسة المشرق أقرأ " الكلدان في التاريخ" لمؤلفه الأستاذ حبيب حنونا.
(3) راجع كتاب " الآشوريون والمسألة الآشورية في العصر الحديث – للمؤلف ماتفييف (بار متي) صفحة 157

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter