|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  19  / 6 / 2015                                 د. شابا أيوب                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

داعش ـ  طاعون الفكر المعاصر  
الجزء الأول

د. شابا أيوب
(موقع الناس) 
 
الطاعون وباءٌ خطير ومُعدٍ ،إجتاح أنحاء أوروبا بين عامي 1347 و1352 وتسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة.  وتشير البحوث الأخيرة في عام 2007 إلى أن 45 ٪ إلى 50 ٪ من سكان أوروبا ماتوا خلال أربع سنوات. [1]

 انتشرت أوبئة مشابهة في نفس الوقت في كُلٍّ من آسيا والشرق الأدنى، مما يوحي بأن هذا الوباء الأوروبي كان جزءاً من وباء عالمي أوسع نطاقا. وقد سُمي بالطاعون الأسود (الموت الأسود) ، للتأكيد على رعب وخراب هذا الوباء، فإذاً كلمة "أسود " تستخدم مجازاً على أنها "الموت الفظيع".
 
وسَببْ الطاعون هو نوع من البكتيريا تسمى (يرسينيا بستس) نسبة إلى مكتشفها الأول «أليكساندر بستس»، وهذه البكتيريا تحتفظ بها القوارض مثل الفئران واليرابيع، وتتكاثر بداخلها وتنمو، وتنتقل عدواها إلى الإنسان عن طريق البراغيث التي تلدغ الفأر المعدِى ثم تلدغ الإنسان، أو نتيجة عض الفئران المعدية للإنسان بشكل مباشر، أو من إنسان إلى آخر بشكل مباشر أيضاً عن طريق الرذاذ والكحة والعطس في حالة الطاعون الرئوي.
 
ويمكن القول مَجازاً، أنَّ أوروبا في القرون الوسطى شهدت طاعوناً من نوع آخر (طاعوناً فكريا) تمثل في بسط الكنيسة الكاثوليكية سلطتها ونفوذها على مقدّرات الشعوب الأوروبية، بما في ذلك على الملوك والعلماء والمفكرين، وذلك بأحتكارها الحقيقة وبأجبار الجميع بالقبول بالأفكار والإعتقادات السائدة لدى رجالاتها ومن ضمنهم باباوات ذلك العصر ، وبصفة خاصة الأعتقاد السائد لديها بأنَّ الأرض ثابتة لا تتحرّك، وأنَّ الشمس تدور حول الأرض، وهي أفكار مستمدة  من آراء أرسطو وبطليموس. ووقفت بوجه كل من يدلي برأي يتناقض مع الفهم السائد. مما يُعد ضررا بليغاً، وإعاقة كبيرة بوجه التقدم العلمي والنهضة الفكرية للشعوب الأوروبية في القرون الوسطى. 
 
 وإليك نماذج من هذه الممارسات الضارة، وما أدّت إليه من تغيير جذري في مسار العلم والفكر والسياسة والأقتصاد في أوروبا، وفي مناطق شاسعة من بقاع العالم.
 
1 -  اكتشف نيكولاي كوبرنيكوس (كان رجل دين و كاهن كنيسة فراونبورج في بولندا) عام 1543م أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل 24 ساعة، فيحدث تبادل الليل والنهار، وتدور حول الشمس مرة كل عام، فيحدث تغير الفصول الأربعة، وأن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض كما كان معتقدًا من قبل، ضاربا بذلك بنظرية بطليموس ـ أرسطو عرض الحائط ، والتي استمرت 20 قرناً، والتي دعمتها الكنيسة لمدة إثنا عشرقرناً، وجعلت مجرد التشكيك في هذه النظرية كفراً.
 
 تعجبت الكنيسة لهذا الأكتشاف، الذي قلب الصورة تماما حين قارنته مع الحقائق الإنجيلية، إذ وجدته يتناقض مع معتقداتها، ومع الإحساس الظاهري للبشر. ولم يتجرأ كوبرنيكوس أن يصرح برأيه في البداية، بسبب الخوف من أن يوسم بالهرطقة من قبل الكنيسة، فنشر افكاره عن نموذجه الكوني في كتاب بعنوان" رسالة في دوران الاجرام السماوية "  دون تعريف باسمه، ولم تكتحل عيناه برؤية كتابه الشهير الذي طبع في مدينة نورمبرج إلا قبل موته بساعة فقط [2].
  
احدث كتابه جدلا كبيرا وصراعا عنيفا راح ضحيته الكثيرون. فمع ان هذا الكتاب نشر فعليا عام 1543، فإن قبول وجهة النظر المطروحة فيه استغرق حوالى 150 سنة ، فقد اعتبرت الكنيسة قبول ما ورد فيه من افكار  (أنَّ الأرض ليست مركز الكون، وهي العقيدة التي تشبثت بها الكنيسة واعتبرتْها غير قابلة للطعن)  من قبيل الإثم، وجريمة يعاقَب عليها بالموت حرقًا، أو بالاضطهاد، أو بالحرمان في أحسن الأحوال ، بل ان قراءة نظريات كوبرنيكوس كانت تعرض الانسان للّعنة والمطاردة ، وهكذا ظلت تلك الافكار التي جاء بها كوبرنيكوس حبيسة الصدور، لا يجرؤ العلماء على البوح بها أو مناقشتها أو تدريسها فقد اعتبرت بدعاً، وتخالف تعاليم الكتاب المقدس.
 
وعندما صرح العالم الفلكي، والراهب الدومينيكاني، جيوردانو برونو علانية بصحة النظرية، وبأنها حقيقة واقعة، وأضاف عليها فكرتين جديدتين، الأُولى أن الكون لانهاية له، والثانية إقراره بوجود آلاف الشموس في الفضاء الكوني، أُتهمَ برونو بالهرطقة، وطُورد في كل مكان، الى ان قُبض عليه في مدينة البندقية وأودع السجن لمدة ستة أعوام ، أحرق بعدها وهو حي في أحد الميادين العامة من روما عام 1600 بعد أن رفض التنازل عن آرائه وإكتشافاته العلمية، وبخلاف ما قامَ به غاليليولاحقاً. ولكن بعد وفاته شعر الباحثون بقيمة علومه وأبحاثه وإعتبروه شهيداَ للعلم، وتعبيرا من الكنيسة عن الندم أُقيم له تمثال في نفس المكان، وهو يقف بعزة وشموخ.  
 
2 -  وعندما آمن غاليليو عبر بحثه ودراساته،‏ بصدق النظريات التي وردت في كتاب كوبرنيكوس، بِأَنّ الشمس هي مركز الكون، واكتشف أيضًا بنفسه أن القمر ليس جسمًا مستويًّا، وأَنّ على سطحه ما يشبه الجبال وفوهات، وأَنّ للمُشتري أربعة أقمار تدور حوله،  واكتشف أن لكوكب الزهرة أطواراً كالقمر مما يعني أن الكوكب يدور حول الشمس، واثبتها عمليا وواقعياً بعد استعمال تلسكوبه المتطور، والذي صنعه بيده عام 1609 ، آخذاً الفكرة من صانع نظّارات هولندي، ونَشْرِه في عام 1610 كتيبا صغيراً يتحدث فيه عن هذه الاكتشافات، ثارت ثائرة الكنيسة بعد أن رفع إثنين من الدومينيكان شكوى عليه عند البابا بولس الخامس عام 1616.

وبفضل هذا البابا، الذي كان قريبا منه، ومساندته له، إنتهى الأمر بصدور تحذير بحقه، يقتضي بموجبه الكف عن نشر تعاليم كوبرنيكوس (الخاطئة).
 
و بأذنٍ من البابا أوربان الثامن سُمِحَ له عام 1632 م  بإجراء حوار حول هاتين الفكرتين من المنظومة الشمسية، ولم يَرُقْ هذا الأمر محكمة التفتيش آنذاك، فأُستدعيَ غاليليو الى روما، ومن دون أي إعتبار الى إذن البابا، وأُجبرَ على القسم في كنيسة (سانتا ماريا سوبرا مينيفرا) عام 1933 بعدم صحة الأكتشافات الجديدة، والتي تقول بان الشمس هي مركز العالم وهي ثابتة، وأنّ الأرض تدور حول نفسها وتدور حول الشمس. وعُوقب على أثر ذلك بالسجن المُؤبد. وبِشفقة من البابا خُففت العقوبة الى السجن في بيته في مدينة فيرنزا، وبقي قيد الإقامة الجبرية في بيته حتى وافاه الأجل في الثامن من كانون الثاني عام 1642. تم تنفيذ الحكم بالرغم من أنَّ البابا وبعض الكاردينالات لم يكونوا مؤيدين للحكم. و على الرغم من انقطاعه عن الزوار، ومَنعْ خروج اي من ابحاثه خارج ايطاليا، تم نشر نسخة مترجمه لدراسته عن القوى و تأثيراتها على المادة في اللغة الفرنسية عام 1634 و نشرت ايضا نسخ من الحوار في هولندا.

 و لم تستطع الكنيسة ان تستمر بمعارضتها لنظرية كوبرنيكوس و في حلول 1835 اقتنعت الكنيسة تماما بصحة هذه النظرية. وبحلول القرن العشرين اقر العديد من الباباوات بعظمة غاليليو ، كما اعلن البابا يوحنا بولس الثاني عام 1992 عن اسفه عن طريقة التعامل مع قضيته، و قدم اعتذاره على ما جرى لغاليليو أثناء محاكمته، وتقرر عمل تمثال له في الفاتيكان  .
 
3 -  ولم يقتصر الأمر على محاكمات كوبرنيكوس وبرونو وغاليليو، فقد حكمت محاكم التفتيش على سبعٌ وتسعين ألفًا وثلاثة وعشرين عالمًا بأحكام مختلفة في الفترة ما بين سنة 1481م إلى سنة 1499م، أي في غضون 18 سنة [3]، كما أصدرت قرارات تُحرِّم قراءة كتب جيوردانو برونو، وكتب نيوتن لقوله بقانون الجاذبية، وتأمر بحرق كتبهم، وقد أحرق بالفعل الكاردينال إكيمنيس (خيمينيس) في غرناطة 8000 كتابًا و مخطوطًا لمخالفتها آراء الكنيسة [4].

4 -  مورس الأضطهاد ضِدَّ ملايين المسيحيين في أوروبا ، الذين أُتهموا بالهرطقة، فاضطروا الى الهرب والأختفاء عن أعين الكنيسة الكاثوليكية، وأدّى هذا في النهاية الى الأنقسام الكنسي والى الأصلاح الديني في أوروبا.

بعد إندلاع حركة الأصلاح الديني والنهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، أصبح لروما والفاتيكان عدوّان جديدان، هما البروتستانتي مارتن لوثر وزعيم عصر النهضة إيراسم. ولذلك قام البابا بحرمان لوثر وفصله من الكنيسة عام 1521. ومنذ تلك اللحظة إنقسم المسيحيون الأوروبيون الى قسمين؛ قسم كاثوليكي وقسم بروتستانتي. ودارت بينهما المعارك والحروب لمدة مئتي سنة تقريبا. وهي حروب المذاهب، التي ذهب ضحيّتها مئات الآلاف من القتلى. وبلغت هذه الحروب ذروتها في فرنسا بين عامي 1562 - 1598. فقد هاجت الجماهير الكاثوليكية على أفراد الأقلية البروتستانتية في مختلف المدن والأرياف، وحصلت مجزرة سانت بارتيليمي الشهيرة ، التي ذهب ضحيّتها أكثر من 5000 شخص. وفَرّ البروتستانت الفرنسيون الى مختلف أنحاء أوروبا. وقد إعتذر البابا للبروتستانت عن هذه المجزرة، وإعترف ضمنياً بالتعصب الكاثوليكي والأعمال الوحشية التي إرتكبوها بحق إخوانهم البروتستانت.

 


[4] الموسوعة الحرة
[4] الموسوعة الحرة
[4] د. راغب السرجاني ـ مكانة العلم بين الأسلام والمسيحية
[4] مانع بن حماد الجهني: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة 2/604



 



 



 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter