|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  29 / 8 / 2020                                 صبيح الزهيري                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

العراق دولة سلطة وليس دولة مؤسسات

صبيح الزهيري
(موقع الناس)

المقدمة
جرت العادة ان تقسم الدول الى نوعين :
النوع الاول : هو دول السلطة و هي الدول التي تفتقر للمؤسسات الاقتصادية و السياسية و التشريعية و الاجتماعية والتي غالبا ما تجمع بمؤسسة واحدة هي السلطة التنفيذية .

وهذا النوع من الدول كان سائدا قبل الثورة الصناعية و الذي ما زالت بعض اشكاله تمارس في دول العالم الثالث المتخلف و الدول ذات النظم الاستبدادية و الفاشية .
اما النوع الثاني : فهي دول المؤسسات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية و التي عادة ما تكون موجودة في الدول المصنعة و المتطورة و الديمقراطية .

واساب وجود هذين النوعين من النظم السياسية ترجع بالغالب لعوامل موضوعية  .
ويندرج العراق ضمن النوع الاول و للاسباب الاتية  :

1- ظروف تاسيس الدولة العراقية و بنيتها :
تاسست سنة 1921بتخطيط بريطاني و بملك غير عراقي و بمجتمع هو عبارة عن كتل بشرية متناثرة تتحكم بها قيم و تقاليد و افكار القرون الوسطى (الثيوقراطية و العشائرية) و تعيش خلف سياج الانعزال التام عن مجريات الحضارة العالمية وتدار بادارة بريطانية شبه مباشرة و بكادر اغلبه غير عراقي و تعتمد على قاعدة اجتماعية اقطاعية وكمبرادورية صنعها المستعمر.
اي ان الدولة العراقية كانت عبارة عن مجاميع بشرية بدوية في ثوب دولة حديثة .و هذا يعني ان شكلها لا يتناسب مع مضمونها ,
ولعله احد الاسباب الرئيسية الذي انتج وصفتها المذكورة اعلاه . .
بالاضافة الى دمجها مع مشاريع الدولة المستعمرة لها .

والنتيجة ظهور دولة هجينة متناقضة مع نفسها ومع الواقع العالمي . ولعل هذا احد اسباب عدم تطورها و لحاقها بالدول الحديثة
الواقع الاقتصادي للدولة العراقية :
ظل اقتصاد البلد معتمدا على عنصرن اساسيين فقط في اغلب فترات عمرها المديد :
أ- اقتصاد الكفاف الحرفي و الزراعي ذو الطبيعة الاقطاعية او شبه الاقطاعية خلال اغلب فترات القرن الماضي .
ب- اقتصاد الريع النفطي و الذي هو السبب الاساسي في تخلف القوى المنتجة لقرن كامل تقريبا. ذلك ان مردودات اثمان النفط ظلت المصدر الاساسي للاقتصاد العراقي .
فالنفط الخام يستخرج من باطن الارض بايادي اجنبية وتكنولوجيا اجنبية و خبرة اجنبية . وليس للدولة من وظيفة سوى استلام حصتها من اثمانه وتحويلها الى رواتب للموظفين او شراء سلع و خدمات من الدول اللاجنبية ..
وذلك لم تظهر صناعات نفط تكميلية مثل صناعات التكرير ولا خبرة صناعية وطنية و لا طبقة عاملة عراقية و لا ثقافة اجتماعية صناعية .

و يكاد يتفق علماء الاقتصاد و الاجتماع و السياسة حول خطورة اقتصاد الريع الذي لا يبني دولة حديثة لوحده.

بل هو يشكل علة العلل في عرقلة ا تطور الدولة و المحتمع في الدول غير المصنعة لانه يساهم في فرز عدة  امراض خطيرة فهو الذي يفرز الفساد المالي و الترهل الاداري و الانتهازية و اللاوطنية و العنصرية و العشائرية و المناطقية و التهميش الاجتماعي و اللاابالية و ضعف الشعور بالمسؤولية و ضعف الابتكار و الاجتهاد . وكذلك فهو الذي يعزز الميول الدكتاتورية وظاهرة الانقلابات العسكرية والتبعية للاحتكارات الامبريالية و القوى الاجنبية بشكل عام .

و بالتالي فهو يؤدي الى فشل الدولة في خلق سوق وطني متطور للعمل و التبادل.

واذا اضفنا له وجود النظام شبة الاقطاعي وطرق الانتاج المتخلفة في الزراعة وشيوع العشائرية التي اشرنا لها ستكون الصورة اكثر قتامة .

ولذلك لا نستغرب من هجرة الفلاحين الى المدن وترك الزراعة مما يؤدي الى فتح الباب لاستيراد السلع و المنتجات الغذائية وغيرها من الدول الاخرى الى حد استيراد مياه الشرب من الدول المجاورة في العقود الاخيرة .

وبفعل السياسات الرجعية و العميلة و المراهقة لم يتطور القطاع الصناعي بالشكل المطلوب بل اصيب بنكسات مميتة وخاصة بعد انقلاب 8 شباط و لغاية هذا اليوم . اي منذ ان امم انقلابيو 18 تشرين عام 1964ما كان موجودا من الشركات الصناعية الناشئة .

ثم ما افرزه النظام الدكتاتوري والعسكرة المفتعلة التي قام بها بظام البعث حيث حولت اغلب الصناعات المدنية و السلمية الى الانتاج الحربي فافرغت المصانع و المعامل من الايدي العاملة العراقية بعداما قذف بهم الى سوح الحرب و الثكنات العسكرية و احلال الايدي العاملة الاجنبية محلهم . ثم ما حل بما تبقى من المصانع و المعامل من تدمير و حرق و سرقة و تخريب متعمد لبناها التحتية بعد الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003.

ثم فتح السوق العراقية للاستيراد بدون اية ضوابط .

كل هذا انهى اهم محور لقيام دولة صناعية ذات مؤسسات حديثة و لديها القدرة على تطوير نفسها و اللحاق بالدول المتقدمة .

الواقع السياسي :
اتصف الوضع السياسي بالعراق منذ تأسيس الدولة عام 1921 بالتبعية للاجنبي و المستعمر و المحتل وكذلك بتسلط القوى الرجعية و المتخلفة على اهم مفاصل الدولة .
ولا داعي لنذكر بسياسات العهد الملكي الخانعة للنفوذ البريطاني و الغربي بشكل كامل و المعادية للحركة الوطنية العراقية وادخالها العراق في مصيدة الاحلاف العسكرية واعدادها للتآمر على الدول الوطنية (حلف بغداد مثلا و الحلف العراقي الاردني ومشروع ايزنهاور) كامثلة صارخة على ما نذكر.

ثم اسقاط ثورة 14تموز التحررية بواسطة حلف رجعي امبريالي مكون من شركات النفط و الاقطاع العراقي و التيار الديني بشقيه السني و الشيعي و التدخل المصري وبعض قوى جبهة الاتحاد الوطني التي كان لها الدور البارز في انجاز مشروع الثورة .

فقد انحاز حزب البعث العربي الاشتراكي الى المعسكر الرجعي و تزعم عملية اسقاط الثورة . .

ثم جاء الدور المكمل و الحاسم لانقلاب 1968 البعثي حيث حوّل البلاد الى معسكر حرب وتوتر واستبداد وقمع لكل ما هو ديمقراطي. وبذلك اغرق البلاد في اتون حروب و مجازر بشرية لا حصر لها ، وكانت النتيجة اعطاء المبرر للقوى الامبريالية لاحتلال البلد .

ثم ان المحتل سلم الحكم الى الاسلام السياسي الطائفي المتخلف الذي اوصل اليلاد الى ما يطلق علية بالدولة الفاشلة حسب ما وصفته المنظمات الدولية المتخصصة و(دولة اللادولة) حسب تعبير عادل عبد المهدي و الكاظمي .

كما يلاحظ كثرة الانقلابات العسكرية وتغول العسكر بشكل ملفت للنظر على الحياة السياسية منذ تأسيس الدولة العراقية والذي بلغ اكثر من عشرة انقلابات او محاولة انقلاب عسكرية طيلة المئة سنة الماضية . ناهيك عن كثرة الاحكام العرفية و الاساليب الدكتاتورية و القمعية التي صارت ظاهرة معروفة لدى المجتمع العراقي .

كل هذه الظواهر التي وصفناها لا تعطي الباحث في الشأن السياسي والاجتماعي قناعة بان هكذا نظام سيبني دولة مؤسسات ديمقراطية رصينة او موسسات انتاجية او تشريعية او بحثية لها القدرة على الصمود و البقاء و التطور .

الوضع الاجتماعي
كان الجهل و الطائفية و الامية و الامراض المتوطنة و السارية (البلهارزيا - التراخوما - السل الرئوي - الطاعون - الجرب -الكوليرا - السرطان وغيرها) سمة الوضع الاجتماعي و الصحي طيلة المئة سنة الماضية تقريبا .

كذلك تشير المنظمات المتخصصة ان نسبة الامية في الفترة الملكية كانت تصل الى اكثر من 90%وفي فترة حكم الاسلام السياسي الحالي تجاوزت 70% عند النساء في بعض المحافظات و 50% عند الذكور .
كما رمت السلطة الحالية شبيبة البلاد الى شارع البطالة و الهجرة و التهميش اللامعقول .
و استبدلت الكادر المتعلم و المتخصص بمجاميع من الاميين واشباه الاميين من منطلق اسلمة الدولة وتثبيت طائفيتها .
وحلت الخرافة و الاسطورة و الشعوذة محل البحث العلمي و الفكر الحديث .
وتراجعت ثقافة المواطنة الى ابعد الحدود لصالح الثقافة العشارية و الاثنية و الطائفية.
وتراجعت ثقافة السلم و الوئام الاجتماعي الى ثقافة التناحر والعداوات بين الناس
وحلت لغة السلاح محل الحوار و التفاهم في حل المشاكل الاجتماعية
و فقد القانون هيبته تماما

كما اغرقت دوائر الدولة بكم هائل من (الموظفين) المرتزقة بدون ان يكون لهم اية ضرورة حيث يقدر عدد الموظفين في دوائر الدولة الان باكثر من خمسة ملايين مدني و عسكري ، كما بينت وزارة التخطيط في اكثر من مرة قي تقاريرها .
حيث قدرت ان معدل عمل الموظف لا يزيد عن 19 دقيقة يوميا .
ثم اردفتها بالميليشيات المسلحة و بالايدي العاملة الاجنبية  .
وهذا الواقع الاجتماعي الموصوف اعلاه لا يسمح ابدا بقيام دولة مواطنة او دولة مؤسسات مدنية البتة.

الواقع التشريعي
منذ تأسيس الدولة العراقية كان التشريع يعاني من ضعف واضح وهو في اغلب الاوقات تابعا ذليلا للسلطة التنفيذية .
فبدلا من ان يكون البرلمان رقيبا على السلطة التنفيذية فان السلطة التنفيذية ظلت هي التي تراقب البرلمان. فتحله او تعطله متى ما شعرت انه يراقبها.
وهذه الحالة لا تنطبق على البرلمان بل حتى على النقابات و العمالية و المهتية و المؤسسات الثقافية و الصحفية ايضا .
ففي الفترة الملكية كان البرلمان (يعين تعيينا من فبل السلطة التنفيذية) و يجري تمريره بانتخابات شكلية,
وطالما حل بسبب صعود بعض الوجوه الوطنية الى جسمه .

وفي الفترات اللاحقة و الممتدة منذ 1958 و لغاية احتلال العراق عام 2003 لم تجر اية انتخابات برلمانية حقيقة ولا دستور دائم .
فقد اعتبر النظام البعثي ان (مجلس قيادة الثورة) هو البرلمان الذي له حق التشريع وما جرى من انتخابات لما يسمى (بالمجلس الوطني) فلا يعدو كونه (ديكورا هزيلا) امام العالم الخارجي .

اما برلمان ما بعد الاحتلال فكان عبارة عن خلطة طائفية و اثنية وعشارية (ليس لها طعم ولا رائحة) اي انه اتى بحفنة من المرتزقة و الاميين و الذئاب الجائعة لامتصاص الدم العراقي و الثروة العراقية .

ولعل فقدان وسرقة اكثر من ترليون دولار دخلت الخزينة منذ 2004 و التي لم يظهر لها اي اثر في المجتمع العراقي و حياة الناس خير دليل على ما ذكرنا .
كما يعتبر الدستور المعمول به حاليا احد اهم العوائق المعرقلة لظهور دولة مؤسسات ديمقراطية وحياة مدنية سليمة .

بل بالعكس فقد ساهم في تمزيق المجتمع العراقي وحوله الى قطع طائفية و اثنية و عشائرية بواسطة مصطلحات : (المكونات - والاسلام دين الدولة - ولا يجوز تشريع قانون يتعارض مع ثوابت الاسلام  و وجوب وجود فقهاء الشريعة في الهيئة القضائية وغيرها .)

ولذلك انتج هذا الدستور كل هذه التناقضات و الفوضى الاجتماعية وفقدان هيبة الدولة واعطى الضوء الاخضر لتبرير اغلب الجرائم التي ترتكب يوميا بحق الشعب العراقي ..

اما القضاء فهو الاخر يعاني من عدم الكفاءة ومن التسييس و التناقض و المزاجية في اصدار الاحكام .

مع وجود كثرة من القوانين المتناقضة مع الدستور . بالاضافة الى وجود كم غير قليل من القوانين التي شرعت في فترات زمنية مضى زمانها ولكنها لازالت تفعل عند الحاجة السياسية للسلطة مثل : القوانين الخاصة بالاراضي الاميرية واملاك الدولة و قانون العلاقات العشائرية و قانون غسل العار الذي يتسامح في قتل المرأة من قبل زوجها او اخوتها اذا ادينت بتهمة الفجور . اضافة الى القوانين التي لا تساوي بين المراة و الرجل في الميراث و العصمة .

وكذلك قوانين صدام التي تعاقب بعقوبة الاعدام كل من يعارض او يطرح رأيا مغايرا (لارادة القائد الضرورة)
ان وجود هكذا وضع تشريعي سيعرقل بالتاكيد اي تطور لدولة مؤسسات مفترضة تسعى لتطوير العملية السياسية و الاجتماعية و القكرية و الثقافية .

الخلاصة
يتضح مما ذكرنا  :
اولا : ان العراق دولة هجينة وفقيرة جدا الى نظام دولة المؤسسات الديمقراطية الحديثة بل هي بالاصح دولة سلطة و تقترب من دول القرون الوسطى رغم وجود كم غير قليل المشاريع و الخطط الاصلاحية والقوانين الحديثة لكنها بقيت مهمشة (ووضعت فوق الرفوف العالية) في غالبيتها
فقد انهارت الدولة العراقية بسقوط النظام الملكي
كما انهارت الدولة كذلك بعد انقلاب شباط و استشهد قائد ثورة 14 تموز عبد الكريم قاسم .
وكذلك انهارت الدولة بالكامل بمجرد سقوط صدام حسين وهربه .

ثانيا : كان للخدعة الامبريالية الكبرى و التي تتمثل في طريقة بناء الدولة العراقية الجديدة على نظام الديمقراطية البرلمانية - و الذي اثبتت التجربة العملية انه لا يلائم ظروف العراق في الوقت الحاضر حيث البنية الاجتماعية والسياسية والفكرية والتشريعية المتردية للغاية مما افضى الى - تدهور الدولة العراقية وفقدان هيبتها داخليا و عالميا .

فالمعروف ان النظام البرلماني هو نظام حكم متطور اكثر من النظام الرئاسي ولكنه يحتاج الى بيئة ومقدمات ضرورية لتبنيه .
وهذه المقدمات غير متوفرة في العراق لا سابقا و لاحقا .

و لذلك لا بد من وجود نظام رئاسي مقيد يكون وسيطا انتقاليا للوصول الى النظام البرلماني. وتكون مهامه محصورة بنقطتين فقط .
الاولى ضبط الوضع الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي و الاداري الداخلي للدولة
و الثاني تثبيت مبدأ السيادة الوطنية واستقلالية القرار السياسي


 

 29/8/2020
 

المراجع
عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي - عزيز سباهي
الاقتصاد العراقي - عباس النصراوي
الاقتصاد العراقي - محمد علي زيني
عبد الكؤيم قاسم في يومه الاخير - عقيل التاصري
الحروب الكيمياوية - الدكتور محمد ميشال الغريب
فهد و الحركة الوطنية - كاظم حبيب و زهدي الداودي
ثورة 14 تموز  - سعاد خيري








 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter