|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  9 / 5 / 2019                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



بين الخرطوم والجزائر

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

من حق الشعوب العربية أن تنتفض بشعارات سلمية على حكم الفرد المستبد في أنظمة تزعم أنها جمهورية. وقد شهدت الساحات العربية انتفاضات جماهير تونس وليبيا ومصر وسورية واليمن, وتغيّر الحال فيها تبعا لذلك, ولكن في بعضها كان التحوّل لما هو أسوأ حين أعادت بعض هذه الأنظمة تدوير نفسها ومنظومة دولتها العميقة التي تجذّرت وأصبحت غولا كاسحا أستطاع أن يقلب موازين القوى لصالح النظام القديم ومؤسساته المتخلفة. أما البعض من هذه الدول فقد تداخلت فيها المصالح الإقليمية والدولية بشكل مباشر أو غير مباشر الأمر الذي جعلها تعيش دوامة من الصراعات الدموية راح ضحيتها الكثير من الأبرياء لدى كل طرف من الأطراف المتناحرة. وفي الموجات الأخيرة من هذه الانتفاضات, تشهد الجزائر والمدن السودانية بما فيها العاصمة الخرطوم مظاهرات واحتجاجات سلمية دعت إلى بعضها منظمات المجتمع المدني وبعض الهيئات النقابية والمهنية في السودان ويتصدّر واجهتها اليوم ما يسمّى بقوى الحرّية والتغيير. لقد استمرأت للأسف رؤوس الأنظمة في معظم بلداننا العربية الجلوس على سدّة الحكم لفترات وصلت بعضها قرابة الأربعة عقود وتحت مبررات شتّى, بل وصل الأمر بالبعض الآخر أن يمهّد الطريق لوارث قادم, ساعدتها في ذلك ما أنشأته تلك الأنظمة من منظومات أمنية موالية لها وأحزاب بهلوانية تابعة تصفق دون كلل للقائد الملهم.

ولندع ما قد تجاوزته الأحداث جانبا رغم أن بها من العجب العجاب, وننظر للحالة الراهنة لما يحصل اليوم أولا في السودان العزيز, سلّة الوطن العربي بحقٍّ وحقيق لو اُستغلّت في الاتجاه الذي يخدم تلك الغاية التنموية والاقتصادية. كان من الأولى والأجدر أن يكتفي سيادة الفريق الركن عمر البشير بالمدد الرئاسية التي قد حصل عليها؟ لماذا تكرار النموذج المصري واليمني والليبي في التمسك بكرسي الحكم طيلة عقود تجاوزت الأمد اللازم لموظف حكومي عادي؟ والأدهى من كل ذلك أن يتمسك رئيس دولة في مكان آخر من المغرب العربي بكرسي الحكم في منظر لا يليق أبدا بمن تمرّس السياسة وله تاريخه النضالي والوطني المشهود؟ ولا غرابة والأمر كذلك أن تجتاز مدن الجزائر سلسلة من المظاهرات التي تطالب الرئيس عبد العزيز بو تفليقة عدم الترشّح لدورة خامسة, وهذا هو الذي حصل أمام الضغط الجماهيري الكاسح, رغم أن الصورة لم تتضح بعد في هذا البلد العزيز بلد المليون شهيد. هل هو مُقدّر علينا أن نجعل شعوب العالم تهزأ بنا وبأنظمتنا المهترئة؟ يبدو أنه إذا طُرح هنا وبكل أسف رغم المشاكل المزمنة مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية, ورغم سياستها الثابتة في الكيل بمكيالين مع قضايا أمتنا العادلة, إلا إنها فرضت احترامها على الجميع بتمسكها بثوابت الدستور الأمريكي واحترام مؤسسات الدولة وأجهزتها الرقابية والتشريعية. رئيس الدولة هناك له دورة رئاسية مدتها أربع سنوات ويحق له الترشح لدورة انتخابية ثانية وأخيرة إن رضي به الناخبون, لا أن يترشح دورة بعد دورة وصلت لدينا في بعض أنظمتنا خمس دورات إن لم تكن دورة مدى الحياة كما كان على وشك الحصول في كل من مصر وليبيا وتونس واليمن.

إنني لا أنكر كذلك في هذا الصدد أن هناك رأي فقهي والذي دون شك قد استند على أحاديث من السنّة النبوية المشرفة, ولست هنا في مجال الجدل حول ذلك الرأي فللمقام الحسّاس هذا رجاله وناسه الذين يفتون فيه ويقررون. وهذا المفهوم هو عدم جواز الخروج على الحاكم وإن كان ظالماً, عملا بانتهاج أخف الضررين. ومن ضمن الشروط التي وضعتها التفسيرات الفقهية والشرعية لهذا الرأي والتي يجوز فيها الخروج على الحاكم الظالم هي القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتّب عليها شر أكبر منه. فالقاعدة الشرعية تنص عل أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه. ويُدعّم هذا الرأي بالقول لدولة ضعيفة أفضل بكثير من فوضى وغوغائية لا ضابط لمسارها ولنتائجها. ويستشهدون وهم على حق في ذلك بقولهم أنظر ماذا جنت شعوبنا ممّا سُمّي بثورات الربيع العربي في تلك البلدان التي جرت فيها؟ وبعضهم يضيف بتهكّم قاسٍ كان الأحرى أن تُسمّى تلك الثورات بثورات الربيع العبري. إن ما يحز في النفس أن تلك الأنظمة الدكتاتورية سمحت لنفسها أن تنهب وتكتنز الأموال الفلكية لقادتها ومحسوبيها من مقدّرات وثروات شعوبها تاركة تلك الشعوب وجماهير الناس بكافة شرائحهم تقتات الفتات في فاقة مخجلة وفي وضع اقتصادي مهين, ناهيكم عن تردّي الخدمات الأساسية وضعف في خدمات البنية التحتية وانفلات أمني شبه مقصود ومتعمّد بل وغياب هيبة الدولة.

يبدو أن الوضع في كل من الخرطوم والجزائر على وشك الانفراج, فقد ترك الساحة مرغما كل من الرئيس عمر البشير وكذا الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خطوة تسبق الانتقال السلمي للسلطة عبر الحلول التوافقية بين العسكر والقوى السياسية المدنية وصولا للمرحلة الحضارية المنشودة عبر صناديق الاقتراع ونأمل من تلك الخطوة أن يكون القادم أفضل.



* نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter