|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  8  / 4  / 2022                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



كيف كنّا وكيف أصبحنا؟

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

وصل الحال بكثيرٍ من الناس أن يتحسّر على ماضٍ غيّبته تقلبات الأيام, رغم ما اعتراه من مثالب جمّة, ولكني عندما تعود بي عجلة الزمن لذاك العصر النادر في تاريخنا العربي الحديث أو بالأحرى الوطني الحديث, وإن كنت أود عدم التطرق لتجربة فريدة لا استطيع بإمكانياتي الفكرية المتواضعة أن أخوض في مجال تحليل إجراءاتها المتعددة ومجريات خطواتها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي, ناهيكم عن التطرق لمجمل إيجابياتها ونواحي سلبياتها, فذاك اليوم كله أصبح في ذمة التاريخ وربما يلزمه أناس متخصصون في علم التاريخ, ولا أزعم لنفسي على الإطلاق أن يكون لي أي مكان بينهم.

أتحدث عن عدن المحروسة التي احتلتها بريطانيا سنة 1839م لحماية الطرق التجارية للإمبراطورية التي وُصفت بأنها لا تغرب عنها الشمس, كما أبرمت بريطانيا معاهدات حماية مع القبائل والسلطنات المجاورة والمحيطة بمدينة عدن وشملت هذه المعاهدات فيما بعد سلطنات حضرموت بشطريها الساحل والوادي. وظلّت بريطانيا تحكم عدن قرابة قرن من الزمان من خلال حكومة بومبي في الهند حتى سنة 1937م, ولا غرابة أن تكون العملة المتداولة في أسواقها بطبيعة الحال هي الروبية الهندية. وبعدها أصبحت عدن مستعمرة تابعة للتاج البريطاني, وفي عهد الحكم البريطاني ذلك تم إعلان مدينة عدن ميناء حراً ازدهر بشكل ملحوظ خاصة بعد افتتاح قناة السويس سنة 1869م. وبذلك شكّل موقع عدن الجغرافي والاستراتيجي, بالإضافة إلى ازدهار مينائها عامل جذب للعيش فيها لسكان قادمين من الهند والصومال وشمال اليمن وربما من السكان الفرس والسكان اليهود أيضاً. واليهود قد يكون لهم استيطان مسبق, فوفقاً للمعتقدات اليهودية يعود الاستيطان اليهودي لجنوب الجزيرة العربية لأكثر من ألفين عام, أي منذ خراب الهيكل الأول في القدس. وفي سنة 1967م نالت عدن وسائر مناطق الجنوب العربي الاستقلال من بريطانيا أثر ثورة مسلحة سوف تختلف الرؤى حول أهدافها ومضامينها واتجاهاتها المتناقضة, وأصبحت عدن عاصمة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في أول تسمية للدولة الوليدة حتى تغيرت التسمية إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في مرحلة سياسية أخرى قصيرة وعاصفة, أي بعد سنتين من الاستقلال وبين مد وجزر للتيارات المتصارعة داخل أداة الحكم الشمولية للتنظيم السياسي الجبهة القومية, حيث تغلّب التيار اليساري في الجبهة القومية على مجريات الأمور وبالتحديد في يوم 22يونيو 1969م وهو اليوم الذي أطلق عليه قيام الحركة التصحيحية. ثم لتتبدّل التسمية في مرحلة ثالثة في 22مايو 1990م بإعلان الدولة الموحدة الجمهورية اليمنية بعد حذف الصفات الزائدة المصاحبة في ذيل أسم كل دولة من الدولتين المختلفتين تماماً في النهج العام لإدارة الدولة والتوجه الفكري ومنظومة القيم السائدة في مجتمع كل منهما.

وها نحن اليوم للأسف منذ عام 2014م, في دوامة صراع عسكري عنيف شمل الدولة من كل أطرافها وشل أسس التنمية وأضعف الاقتصاد الوطني وأسهم في انهيار العملة الوطنية وتسبّب في غلاء المعيشة, لدرجة لا يتحملها المواطن متوسط الدخل ناهيكم عن المواطن البسيط الكادح. وحقيقة كانت هناك كثير من المنجزات تتمتع بها هذه الفئات الكادحة في دولة الجنوب. ففي دولة ذلك الزمان استطاع أن يتزوج من هم من أفراد جيلي بمهر زواج لا يتعدى المائة دينار وهي تعادل 300 دولار بموجب الصرف في ذلك الزمان, إذ كان قيمة الدينار ثلاثة دولارات. أما المواد الغذائية فقد كانت مدعومة من قبل الدولة وبالذات المواد الأساسية لأقوات الناس اليومية والضرورية. وكانت العملة الوطنية مستقرة وسعر الصرف ثابت لا يحيد ولا يتأثر بمضاربات السوق العالمية. اهتمت الدولة ببناء مقرات مؤسساتها السيادية ولا تستأجرها كما هو حاصل اليوم. كما تبني الدولة مساكن ووحدات سكنية لكوادرها وتملكها لهم بالتقسيط المريح, فقد تملكتُ شخصياً شقة سكنية في إحدى العمارات السكنية في وحدة سكنية بُنيت بكاملها على أنقاض سجن عدن الجهوي في مدينة كريتر أعرق وأقدم حي في عدن بقيمة ثلاثة آلاف دينار فقط وبأقساط شهرية بواقع تسعة دنانير في كل شهر.

كما أخذت أثاث غرفة نوم متكاملة عند زواجي بقرض من تعاونية النجارين بمبلغ لا يزيد عن 1400 دينار وهي ما زالت معي صلبة وصامدة رغم تفكيكها ونقلها لأكثر من ثلاثة مواقع. أين نحن اليوم من كل تلك المؤشرات الإيجابية؟ فالريال اليمني الذي كان مناطحاً للريال السعودي حتى لزمن قريب, أصبح اليوم في مرحلة ضعف محزنة, إذ يتفوق عليه بأكثر من 300 ضعف. كانت ملابس الأطفال ومحتاجاتهم الضرورية من ألبان وغيرها في متناول الجميع ولا تشكل عبئا على الإطلاق على كاهل رب الأسرة المتوسط الحال. وكانت الخدمات الصحية والتعليمية رغم شحة إمكانياتها وضعف تجهيزاتها, إلا إنها مكفولة للجميع, فالمراكز الصحية المجانية ومدارس التعليم الأساسي انتشرت بطول البلاد وعرضها وكفلت الدولة مجانية التعليم بما في ذلك التعليم الجامعي بل وشجعت الطلاب بحوافز رمزية ووفرت لهم التغذية المقبولة والسكن الداخلي في مبان سكنية بنتها لذلك الغرض. وعلى رأس كل هذه الأمور كان الأمن وهو عصب الحياة مكفول ومستتب, وقلما تحدث حوادث جنائية من أي نوع. كان بإمكانك التجول مع عائلتك بعد منتصف الليل ولا يتعرض سبيلك أي أحد. لست هنا في مجال البكاء على اللبن المسكوب, فتلك المرحلة لها أيضاً سلبياتها وقد بدا بعضها غير منطقي وغير معقول في مجتمع متديّن ومحافظ. ولكن واقع الحال اليوم, ساءت فيه كثيراً الوسائل الخدمية من كهرباء وماء وخطوط اتصالات ووقود طبخ ومحروقات وظل المواطن البسيط يلهث من طابور لآخر وفي متابعات إدارية منهكة إذا تعطل لديه أي من تلك الوسائل المختلفة.

تطلعنا اليوم بكل أمل وتفاؤل للنخب السياسية والقوى الوطنية التي اجتمعت في الرياض تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي للوصول لكلمة سواء وللخروج من هذا النفق المظلم. ونتمنى أن يكون التغيير الجذري في رأس هرم الدولة الذي تم التوافق عليه, يأتي بشيء جديد في بلادٍ كان يُطلق عليها في سالف الأيام العربية السعيدة.



*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter