|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  7 / 10 / 2017                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



بين السياسي والأديب

د. سالم رموضه
(موقع الناس)

هلت علينا منذ أيام الذكرى 47 لرحيل الزعيم المصري جمال عبد الناصر مساء 28 سبتمبر 1970م, وهو الذي قاد في صباح 23 يوليو1952ثورة قادت إلى أعمق التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مصر منذ عصر محمد علي. ما زلت أذكر ذلك اليوم الحزين الذي خرجت فيه حشود الناس في كل ناحية وقرية ومدينة في جنازات رمزية لتشييع ذلك الرمز الذي قل ما جاد بمثله الزمان في العصر الحديث. ولا زلت أتذكّر ملامح ذلك اليوم الحزين الذي طافت فيه جموع الناس في مدينتي بنعش رمزي أنحاء المدينة قبيل العصر وانتهت إلى الجامع الكبير حيث قُرئت الخطب التأبينية كانت إحداها من إمام المسجد, وارتجل فيها بعد صلاة الغائب معلم اللغة العربية بمدرستي قصيدة رثى فيها الراحل الكبير بكلمات مؤثرة. إننا نترحم اليوم على الرئيس جمال عبد الناصر لما آل إليه حال الأمة من هوان في معظم الرقعة الجغرافية التي يُطلق عليها العالم العربي. ومع ذلك لم يسلم الرئيس الراحل بعيد وفاته إلى اليوم من انتقادات قاسية وحادة لفترة حكمه ولحالته الشخصية, آخرها ما كتبه السياسي عمرو موسى الأمين العام السابق للجامعة العربية في مذكراته التي أطلق عليها " كتابيه " فقد وصفه بالديكتاتور وتعرض لمسائل شخصية تمس الرئيس الراحل من قبيل أنه يستورد غذاء خاصا من سويسرا, الأمر الذي نفاه كل الذين كانت لهم صلة به. بيد أنه ركز بشكل خاص على مسؤوليته عن الهزيمة التي منيت بها مصر في 5 يونيو 1967م, وهو اليوم الذي شنّت فيه دولة الكيان الصهيوني عدواناً خاطفاً على ثلاث دول عربية هي مصر وسورية والأردن واحتلّت أراضٍ شاسعة من تلك الدول منها سيناء وهضبة الجولان وما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وهي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزّة, رغم حدوث بعض البطولات هنا وهناك والتي ضاع أثرها وسط أجواء ما سُمّي بتعبير النكسة لدى الجانب العربي أو حرب الأيام الستّة كما يحلو للعدو أن يسميها. وأضاف بأن مظاهرات التنحي يومي 9 و 10 يونيو بعيد الهزيمة كانت عبارة عن مسرحية دبّرها بإتقان لأعادته للحكم. وفي جانب آخر تناول الأديب أنيس منصور في فترة سابقة حملة انتقادات ظالمة لخصها في كتابه بعنوان "عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا ", ركّز فيه بشكل خاص كذلك على يوم 5 يونيو من عام 1967م. وحمّل الكاتب الرئيس عبد الناصر وحده أسبابها ونتائجها وتبعاتها, وجعل منه نيرون العصر الذي لا يحتمل أي رأي مخالف لرأيه. غير أن الكاتب بالغ كثيراً في توظيف قدراته الصحفية والبلاغية في النهش في شخصية رجل أخطأ وأصاب وهو اليوم في ذمّة التاريخ, ومن زخّات ذلك الهجوم القاسي أنه استعاد للأذهان حتى قصائد الشعر المريرة وبعضها صادق ومعبر من أمثال " هوامش على دفتر النكسة " للشاعر الراحل نزار قباني التي كتبها عقب النكسة مباشرة وقصيدة " هل عاد ذو الوجه الكئيب؟ " للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور الذي قالها قطعاً حول عبد الناصر وإن كانت مجافاة للحقيقة وغير موفقة في مضمونها ووصفها. كما أبرز الكاتب في شكل لمز وغمز مسرحية " السلطان الحائر" للكاتب الكبير توفيق الحكيم والتي كتبت في خريف 1959م. وبالرغم أن فحوى تلك المسرحية يتلخص في الصراع الدموي التاريخي بين القوة والقانون, إلا أن الأديب أنيس منصور كما يتضح من مقالته في الكتاب قد وظف كل ذكائه للتهكم وللسخرية من الحاكم أي الرئيس عبد الناصر مما أدّى آنذاك إلى فصله من عمله. وبناء على ذلك الفصل استنفر بين دفّتي كتابه بأثر رجعي كل قدراته المميزة للنيل من شخص وحكم وقرارات عبد الناصر دون استثناء, ولكن ذلك لم يتم له إلا بعد وفاته بسنين وصاغها بأسلوب أدبي ساخر بحق أو بدون حق لتشويه حقبة من التاريخ العربي المعاصر. بل لقد اختزل مسيرة الرجل الذي قاد أول ثورة عربية تحررية في العصر الحديث بأنه أراد أن يكون الفرعون رمسيس بالنسبة للمصريين والقائد صلاح الدين بالنسبة للعرب, وفي جملة واحدة عبّر عن سيرته كلها " بأنه ثار في 1948 وانتصر في 1952 وجرح في 1956 وذبح في 1961 ومات في 1967 ودفن في 1970". واللافت للنظر أن كل هذه التواريخ محطات مهمة كُتبت فيها مئات المؤلفات المنصفة والشهادات التاريخية العادلة ولكن الكاتب الكبير أنيس منصور لم يعرها انتباهاً واعتباراً.

وإن كنت اليوم في هذه العجالة سأكتب بعض الخواطر حول ما قاله الأثنان حول مظاهرات التنحي فهو من باب أن الشيء بالشيء يذكر لأني عايشت تلك الفترة القاتمة وكنت في وسط الحدث في قاهرة المعز أبّان ذلك العدوان السافر, فقد صدف أن كنت مع أفراد دفعتي المبعوثين لمدرسة حنتوب الثانوية في السودان أبان السلطنة القعيطية في زيارة لمصر خلال الفترة 20مايو - 20يونيو1967م. وفي يوم 9 يونيو عندما أذيع أن الرئيس عبد الناصر سوف يلقي خطاباً مهماً للأمة في مساء ذلك اليوم, ذهبنا لميدان الدقي بالجيزة وكان قريبا من مكان إقامتنا, وكان بأحد أركان ذلك الميدان مقهى يسمى زهرة الميدان والذي ظل محتفظاً باسمه حتى اليوم بل ونفس طابعه وخدماته وكان يوجد به تلفزيون أبيض أسود في ذلك الزمان لنستمع للخطاب والذي أذيع على الهواء مباشرة في تمام الساعة السابعة مساء كما أذكر. وما أن أنهى عبد الناصر خطابه وكانت سماء القاهرة وشوارعها وأحيائها كلها مظلمة تماماً تحسباً لأي غارة جديدة بل كنا نسمع أصوات المدافع المضادة للطائرات من أماكن قريبة للقاهرة وإذا بأصوات الناس وهتافاتهم ومظاهراتهم رفضاً لقرار التنحي تملأ الشوارع والميادين في ذلك المساء المظلم ولما يمضي بعد على الخطاب أكثر من نصف ساعة. فأي ترتيب وأي ذكاء يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا كان الأمر خارق للعادات وفوق فهم الناس؟ وما أن أصبح اليوم التالي إلا وكانت القاهرة في تلك الأجواء الصيفية الخانقة تضيق بناسها وبالقادمين إليها من الأرياف ومن الضواحي والأماكن القريبة بالحافلات والقطارات ومنهم من أتى راجلاً طوال الليل متورم الأقدام مشحون بمطالب الصمود والتحدي وليس بمشاعر اليأس والانكسار. وصدف أن كنت شاهد عيان على كل ذلك وليس عبر قراءة أسطر مبتورة في مذكرات السياسي عمرو موسى أو مقالة في كتاب الأديب أنيس منصور.


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter