|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  6 / 3 / 2017                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



ماذا بعد الربيع العربي؟

د. سالم رموضه
(موقع الناس)

تدور عجلة الزمان ليتخطّى عدّادها قرناً بكامله على اتفاقية سايكس- بيكو المشؤومة التي بموجبها قُسمت تركة الدولة التركية المنهزمة في الحرب الكونية الأولى وهي تلك الأراضي التي تقع في المشرق العربي على دول التحالف الغربي بريطانيا وفرنسا. ومثل الدولتين فيها مارك سايكس المندوب البريطاني في القاهرة وجورج بيكو الذي كان قنصل فرنسا في بيروت ثم عُيّن مندوبا سامياً لها. وحدد الاتفاق بينهما هذا التقسيم على الخارطة بانتظار انتهاء الحرب, وبالفعل حال انتهاء الحرب استولت فرنسا على القسم الشامل للبنان والشام أي سوريا واستولت بريطانيا على القسم الشامل لفلسطين والأردن والعراق. وظلت حدود سايكس بيكو وملحقاتها كما هي حتى اليوم وهي التي بمقتضاها مُزّقت أوصال أمة واحدة وشعب واحد ووطن واحد وتراث ثقافي وحضاري واحد ومصير واحد. لقد اعتمد قادة الوطنية في تلك البلدان خلال الحكم العثماني على وعود الحلفاء لتحرير أوطانهم من الأتراك فكانت النتيجة المرة أن ذهب الأتراك ليحل محلهم الإنجليز والفرنسيون فيقتسمون التركة بينهما. وكانت المأساة الكبرى في إعلان حق اليهود في إقامة دولة في أرض فلسطين استنادا على وعد مشؤوم يطلق عليه وعد بلفور وهو على وشك أن يطوي كذلك قرنا بكامله.

ينطوي ذلك الوعد على رسالة أرسلها آرثر جيمس بلفور بتاريخ 2 نوفمبر 1917م إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين, وقد أرسلت الرسالة قبل شهر من احتلال الجيش البريطاني فلسطين. وكان إنشاء ذلك الكيان الغاصب بمثابة خنجر غُرز في خاصرة الوطن العربي ظل ينزف قرابة سبعة عقود دون أن يلتئم. وها هي نتائج من سايكس بيكو نراها اليوم في نسختها الجديدة والمنقحة بعد ثورات الربيع العربي وسيناريو احتلال العراق العظيم ومحاولة تمزيق أراضيه ولحمته الوطنية وإثارة النعرات الطائفية والجهوية والأثنية فيه تلوح في الأفق, ليس في العراق الذي نتمنى أن يتعافى ولكن في دول عربية أخرى.

وفي الجانب الآخر أصبحت قضية فلسطين وهي قضية العرب والمسلمين المركزية في يد أصحابها العزّل يدافعون عنها وعن أقصاها بصدورهم العارية وبحجارتها المقدسة, إزاء ارتكاب سلطات الاحتلال الصهيوني المجازر البشعة ونهج سياسة الإبادة الجماعية والقتل بدم بارد حتى للأسرى المحررين لمجرد الاشتباه فيهم. كما اشتملت تلك المنهجية العنصرية على عمليات الإعدام الفوري لمن يشتبه فيه من الفلسطينيين تحت مبرر بأنه يحمل سكينا ويظهرها للطعن. بل تتمادى هذه السلطات في أساليبها التعسفية وتتصرف بمنتهى الأريحية وعدم المبالاة وتشرّع لقوانين مجحفة بغرض الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وإضفاء الشرعية القانونية على الكتل والبؤر الاستيطانية التي أقامتها في الضفة الغربية لنهر الأردن أو تلك التي تزمع إقامتها وبنائها في قادم الأيام.

أما في سوريا العزيزة فقد اختلط الحابل بالنابل في مختلف الجبهات وأماكن النزاع, وبعضها قريب من هضبة الجولان المحتلة من العدو المشترك الذي ينظر بشماتة وارتياح لما يدور وكأن ذلك التناحر الدموي والحرب الدائرة على الأراضي السورية ما هي إلا حرب بالوكالة لصالحه وهو في مأمن منها. ومع التفاؤل المشوب بالحذر جراء المحاولات المستميتة من أجل الخروج من الأزمة السورية وهي شائكة في محادثات جنيف وأستانا وغيرهما إلا إن الأفق ما زالت تلوح منه إشكاليات عدّة لكثرة الأطراف المتنازعة وعدم تجانسها في النظر لمستقبل سورية الجريحة.

أما في ليبيا واليمن فقد شُلّت سلطة الدولة وكُسرت هيبتها وفُرضت عليها إملاءات وخيارات وفق تداخل المصالح الإقليمية والدولية المتضاربة. فهناك أكثر من حكومة في كلا البلدين الأمر الذي استنزف الكثير من دماء ومقدرات الشعبين وتدمير مشاريع البنى التحتية والمنشآت الوطنية التي دفعت فيها تلك الشعوب غالي التضحيات. وما زالت نيران المعارك مشتعلة في أكثر من جبهة ولم تحسم بالرغم من تدخّل قوى التحالف الإقليمية والدولية. ربما يكون الاستثناء الوحيد في خضم نتائج تلك الثورات التي أطلق عليها ثورات الربيع العربي هو ما حصل في تونس من انتهاج الطريق الدستوري السليم عبر الاستحقاقات البرلمانية والمؤسسات الرئاسية الأمر الذي مكّن لها خروجاً آمناً من مصيدة سايكس بيكو الجديدة التي تنحصر في استراتيجية تقسيم المقسّم وتفتيت المفتت.

ويظل السؤال الذي يبحث عن إجابات حائرة, ماذا بعد الربيع العربي؟ وقد أعادت تلك الأنظمة التي ثار عليها المقهورون تدوير نفسها واحتوت الدولة العميقة فيها نتائج تلك الثورات بثورات مضادة ومنهجية متناقضة مع ثورات الربيع العربي.
 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter