|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  4  / 11  / 2022                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



النعيري ووجهة الشرق

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

رحم الله الفقيد فيصل علي العطاس المُلقّب بالنعيري, فقد كان رجلاً شجاعاً صريحاً وبسيطاً. عيّنه الرئيس سالم ربيّع علي محافظاً لمحافظة حضرموت في 1نوفمبر1970م أبان أوج الزخم الثوري في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. فهو من الرعيل الأول الذي انضم لحركة القوميين العرب عام 1959م عندما كان طالباً في كلية عدن الثانوية الشهيرة التي تخرّج منها الكثير من الكوادر الفنّية والسياسية, ولكن نشاطه السياسي والنقابي برز في حضرموت أبّان فترة الستينيات, إذ كان الناطق باسم تنظيم حركة القوميين العرب فيها وقد ساعد في انتشار التنظيم ومن ثم الجبهة القومية في حضرموت من خلال الهيئات العامة من اتحاد النقابات والجمعيات المهنية واتحاد الطلبة. لم تكن لدي معرفة واسعة به أو كنت قريباً من دائرته الخاصة إلا ضمن إطار هامشي ولقاءات متباعدة صدفت أن شملت حيّزاً متدرّجاّ من سيرة حياته ما بعد فترة تولّيه حكم وإدارة محافظة حضرموت.

تلك اللقاءات كانت أولها عندما تخرجتُ من كلية الهندسة بجامعة الفاتح في طرابلس الغرب عام 1975م, وكنتُ قد قُدّمتُ أوراق توظيفي لدى وزارة الأشغال العامة والطرق بخور مكسر في معسكر أبي عبيدة, وكان المرحوم فيصل العطاس قد انتقل من حضرموت إلى العاصمة عدن وكان وقتها يشغل وكيل الوزارة ومن ضمن اختصاصاته دائرة الموارد البشرية وعليه أن يوجه في الطلبات المقدّمة إليه للجهات المختصة, وقد أحيلت تلك الأوراق لقسم الطرقات والجسور لأعمل بها قرابة الثلاثة أشهر. غير أنني فوجئتُ أنه في أول راتب أتقاضاه والذي لم يتعدّ الخمسين ديناراً أي 1300 ريال قد خُصِمَ منه دينار تحت بند خصم الزبيب.

وعندما استفسرت عن ذلك عرفت أنه قد وُزِّع لموظفي الوزارة أكياس من الزبيب كانت مرسلة هدية من ليبيا وقُسّط ثمنها شهرياً من رواتب الموظفين والعاملين والمهندسين, وبمّا أني لم استلم تلك الهديّة فقد توقّفَ الخصم للأشهر اللاحقة. وفي جولة سريعة معه لأحد المشاريع الإنشائية استوقفت أحدُ المفارز الأمنية سيارته الصغيرة المتواضعة والتي تُسمى وقتها كما أذكر حبة ونصف ولم يعرهم الأخ فيصل أي انتباه بل مرق منهم كالسهم صارخاً "فيصل النعيري وكيل وزارة الأشغال عليكم غضب".

وفي مرة ثالثة في منتصف الثمانينات تقابلنا في صالة مطار عدن الدولي في الكفتيريا العلوية لصالة المغادرة وكان يشغل رئيس مؤسسة الملح في عدن بعد خروجه من الوزارة. وبعد تبادل التحية سألني أين أنت مسافر؟ فقلت له لفرنسا لدراسة الدكتوراه فابتسم مازحاً قائلاً أنتم مغرّبون ونحن مشرّقون وكان مسافرا في مهمة عمل للصين. وفي مرة أخيرة ويبدو أنه قد أحيل للمعاش تقابلنا في نهاية التسعينيات في قاعة ما سميت الآن قاعة الأديب علي أحمد باكثير برئاسة جامعة حضرموت في مناسبة يوم الديمقراطية يوم 28 أبريل, وكنت قد ارتجلت كلمة نيابة عن رئاسة الجامعة أمام حشد من الضيوف وممثلي الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في مدينة المكلا. وقلتُ في الكلمة أن الديمقراطية ممارسة وفعل وليست إقصاء وتهميش وتذبذب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين كما يحصل لدينا اليوم وكلام كثير أرى أنه لم يكن من السياسة بله من الكياسة بمكان عندما استذكره الآن.

المهم في الأمر أني سألت المرحوم فيصل بعد أن ألقيت كلمتي وجلست بجانبه معاتباً بأدب مستحضراً تاريخ الرجل ونضاله وجرأته المعروف بها لماذا هدّم سدة المكلا التاريخية عندما كان محافظا لحضرموت؟ وأجابني بهدوء لست أنا من أصدر قرار تهديم وتكسير سدّة المكلّا بل العكس أصدرتُ أمراً بتوقيف العمل بالتكسير وبالتهديم ولكن اللجان الشعبية والقيادة المحلّية هي التي أصرّت على تكسير السدّة, وكان الشائع ربما حتى اليوم أنه كان وراء ذلك القرار المتهور بطمس معلم حضاري وأثر تاريخي لمدينة المكلا. هذه بعض اللقطات البسيطة مع ذلك الرجل البسيط الذي غادر دنيانا وخلف الكثير من علامات الاستفهام بالرغم من جسارته المعهودة ونخوته البدوية وأسلوبه الصريح الساخر, وسيحكم التاريخ له أو عليه, لا سيما وقد قرأت له مقالة ضافية شرح فيها تاريخ نضاله السياسي وكان قد أمر ألا تُنشر إلا بعد وفاته. وقد توفى في المملكة العربية السعودية بتاريخ 28 مارس 2014م بعد صراع عامين مع المرض. رحم الله الرجل الوطني فيصل النعيري وغفر له زلاته وتجاوز عن سيئاته.

 


صلالة في 4 نوفمبر 2022م
 


* نائب رئيس جامعة حضرموت السابق
ورئيس جامعة الأوائل الحديثة حالياً
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter