|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  4 / 1 / 2016                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ومضات مصرية

د. سالم عوض رموضه
(موقع الناس)

بعد أكثر من 150 سنة على حفر قناة السويس البالغ طولها 193 كيلومتر, تم في 6 أغسطس 2015م افتتاح قناة موازية لها بطول 72 كيلومترا تنم عن تجدد العبقرية الهندسية المصرية. وقد ضُرب أول معول في أرض الموقع الذي قُدر له أن يكون مجرى للقناة في 25 أبريل 1859م لربط مياه البحر الأبيض المتوسط بمياه البحر الأحمر عند مدينة السويس, وهو مشروع هندسي استراتيجي بامتياز, ولكن شعب مصر قدَم آلاف الشهداء الذين طمرت أجسادهم مع الحفريات وفي المياه أثناء شق القناة. ترافق هذا المشروع الهندسي الجبار مع إنشاء مدينة بور سعيد في الطرف الشمالي للقناة عند ملتقاها بمياه البحر الأبيض المتوسط. وبالرغم أن افتتاح القناة كان في عام 1869م في حفل رهيب أقامه الخديوي إسماعيل, إلا أنه منذ ذلك التاريخ عاشت مدينة بورسعيد في مواجهات مع الغزاة باعتبارها إحدى البوابات الاستراتيجية لمصر العربية وخط الدفاع الأساس لأرض الكنانة. وفي حوالي منتصف القناة ما بين بورسعيد والسويس أنشئت مدينة الإسماعيلية على الجانب الغربي للقناة تخليداً لذكرى الخديوي إسماعيل الذي افتتحت القناة في عهده.
شهدت هذه المدن الثلاث انتفاضات المقاومة الشعبية ضد الوجود الاستعماري في مصر وعلى قواعده في مدن القناة حتى تُوجت بقيام ثورة 23 يوليو 1952م المجيدة بزعامة قائدها جمال عبد الناصر, وهو رجل قادم من عالم الأساطير فيما يتعلق بزعامته وهيبته وطهارة يده وإنجازاته. ولكنه أتى في الزمن الصعب إذ تكالبت عليه قوى الاستعمار والصهيونية, فانتقل لرحاب ربه دون أن يحقق المشروع الحضاري والحلم الجميل.

ومن المصادفات العجيبة أنني كنت قريباً من مصر أثناء حروبها الأخيرة باستثناء عدوان 1956م الذي عاصر طفولتنا المبكرة والذي فشل أمام صمود شعب مصر والمقاومة الشعبية التي انطلقت بالذات في بور سعيد, التي أصبحت رمزاً للتضحية والصمود وموطنا للشهداء. 

ففي 15مايو 1967م, غادرنا السودان في طريقنا إلى مصر في الإجازة الصيفية بعد استكمال السنة الأولى في مدرسة حنتوب الثانوية والتي اُبتعثنا نحن أوائل المدارس المتوسطة في السلطنة القعيطية إليها. وهو ترتيب كان يعمل به من خمسينيات القرن الماضي بإشراف رجال تربويين في المكلا وأم درمان. وقد تخرج من هذه المدرسة ومن نظيرتها في بورتسودان رجال التربية والهندسة والاقتصاد والسياسة من أبناء حضرموت ومنهم: المغفور لهم بإذن الله علي سالم الغرابي, فيصل بن شملان, فرج سعيد بن غانم, سالم عمر بكير, عبدالرحمن بافضل, طالب بن شملان, حاج باحميش, سعيد محمد دحي, عبدالله سالم محروس, والأساتذة أطال الله في أعمارهم عبد الحافظ الحوثري, محمد بن ثعلب, سعيد عبدالله باعنقود, عبدالله عمير, عبدالله بابقي, علي عمر الصافي, صالح العساني, علي حسن التميمي وقائمة طويلة جدا.

كانت الرحلة الميسرة لنا إلى مصر عن طريق القطارات والبواخر النيلية تستغرق ثلاثة أيام عند الذهاب وأربعة أيام عند العودة. ابتدأت الرحلة من الخرطوم في قطار قديم ينتهي مساره عند مدينة حلفا في شمال السودان. ثم عبر باخرة نيلية لمدة يومين من حلفا حتى مشارف مدينة أسوان عند منطقة تسمى الشلال, إذ يقف السد العالي شامخا في عرض النيل, يقطع الخط البحري, وهو أيضاً مشروع هندسي عملاق أستطاع أن يروّض مياه النيل المتدفقة ويقي مصر أزمات الجفاف وكوارث الطوفان, ناهيكم عن توليد الطاقة الكهربائية الهائلة التي غطت قرى مصر ومدنها حتى مدينة القاهرة نفسها. ثم من أسوان في قطار شعبي آخر يسمى القشاش, وهو قطار أبناء الصعيد الطيبين بجلابيبهم القطنية الفضفاضة وأقفاص البط والوز أهم ما يحملونه من أمتعتهم. يتوقف هذا القطار الذي لا وجود له اليوم في كل محطات الصعيد لنزول ركاب وصعود ركاب آخرين ولهذا سمي بالقشاش وينهي رحلته في محطة مصر في مدينة القاهرة التي نزورها للمرة الأولى وتمثل لشباب جيلنا قلعة الحرية والعزة والكرامة. فوجئنا بعد أيام من وصولنا بحرب 5 يونيو 1967م, ولم نستطع العودة للسودان إلا بعد 20 يونيو 1967م عندما تأمن الخط البحري وكان في الأنفس الغضة ما فيها من توجع وحسرة وخيبة أمل. أذكر إننا في ليلة 9 يونيو ذهبنا لميدان الدقي القريب من مسكننا لمشاهدة خطاب التنحي الشهير في مقهى زهرة الميدان والتي يوجد بها جهاز تليفزيون أبيض أسود ولكن بعد أقل من نصف ساعة من الخطاب خرجت جماهير القاهرة في مظاهرات عارمة رغم إطفاء أنوار القاهرة رافضة الهزيمة ومتحدية صفارات الإنذار ومتمسكة بقائدها المهزوم في موقف ندر على مدار التاريخ. وفي صبيحة يوم 10 يونيو زحفت جماهير الضواحي والأرياف على القاهرة وامتلأت بهم الشوارع والميادين رافضين قرار التنحي. ومن غرائب الصدف أني بعد 45 سنة من ذلك التاريخ عدت للقاهرة لقضاء فترة تفرغ علمي في فبراير 2012م أبان ثورة 25 يناير العظيمة وسكنت في استراحة جامعة أسيوط بالدقي المطلة على مقهى زهرة الميدان. والميدان والمقهى لم يتغيرا أبداً سوى استحداث كبري حديدي ضخم يمر فوقه ومحطة المترو التي عملت تحت أرضيته. ومشروع مترو الأنفاق في القاهرة عمل هندسي استراتيجي خفف أزمة المواصلات, وقد أعيد تسمية محطة رمسيس الضخمة (حسني مبارك) إلى محطة (الشهداء) تخليدا لشهداء الثورة. 

أما في 6 أكتوبر 1973م عندما وقعت حرب أكتوبر فقد كنت في طريق العودة من الكويت إلى طرابلس الغرب في ليبيا بعد قضاء الإجازة الصيفية لدى أشقاء لي كانوا يعملون في الصباحية وميناء الأحمدي. وقد مرت الطائرة على بيروت أولا ثم بنغازي وأخيراً طرابلس حيث كنت أدرس في كلية الهندسة جامعة الفاتح وقتها. وقد استطاع الجيش المصري عبور قناة السويس واجتياح خط بارليف المنيع شرق القناة في ملحمة بطولية سوف لن تنسى من ذاكرة الأجيال. وعبور قناة السويس هو في المقام الأول عمل هندسي, إذ نفذ المهندسون وفقا لخطة العبور التي خطط لها الفريق المغفور له بإذن الله سعد الدين الشاذلي ورجاله الأشاوس فتح الثغرات في الساتر الترابي لخط بارليف وإنشاء الكباري لعبور الدبابات وبناء كباري اقتحام وتجهيز وتشغيل المعديات والقوارب المطاطية لعبور المشاة. وقدر لي زيارة مواقع الجبهة في مناطق قناة السويس عندما كنا في اجتماع دوري لرؤساء الجامعات العربية في رحاب جامعة قناة السويس في مارس 1998م نيابة عن رئيس جامعة حضرموت, المغفور له بإذن الله الأستاذ الدكتور علي هود باعباد. رحم الله شهداء مصر وشهداء الأمة جمعاء. 


 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter