|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  30 / 3 / 2021                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



عبر الأطلسي

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

البداية في رحلة الدراسة العليا عبر الأطلسي كانت في مساء 30 سبتمبر 1982م, عندما غادرت مطار عدن الدولي في طائرة صغيرة تابعة للخطوط الجوية الجيبوتية لا يتجاوز عدد ركابها عشرة مسافرين إلى جيبوتي لقضاء ليلة واحدة هناك, وفي صباح اليوم التالي من مطار جيبوتي بالخطوط الجوية الفرنسية الأنيقة إلى مطار شارل ديجول بباريس. كنت أحمل رسالة من الأستاذ الدكتور محمد سعيد العمودي عميد كلية الهندسة بجامعة عدن حين ابتعاثي والذي أصبح فيما بعد رئيساً لجامعتها إلى الأستاذ المشرف عليه أثناء دراسته في مونبيلييه الأستاذ باتريك جنستي بخصوص تسهيل التحاقي بأحدى الجامعات الفرنسية, أرسلتها لعنوانه بالبريد أول ما وصلت فرنسا. وتواصل معي ذاك الأستاذ دون أن أقابله ووجهني عبر رسالة بريدية صغيرة منه لمدير مختبر الهندسة المدنية بالمعهد القومي للعلوم التطبيقية بتولوز الأستاذ جون كلود مازو.

كان مقرراً علينا أولاً في برنامج البعثة إلى فرنسا سنة بكاملها تُسُمّى بسنة الاستقبال مخصّصة لدراسة اللغة الفرنسية, أمضيتها ما بين مدينة روان في شمال باريس ومدينة بيسنسن في غرب فرنسا. وبعد تلك السنة التمهيدية توجهت لمدينة تولوز الوردية في جنوب فرنسا لدراسة الدكتوراه بالمعهد القومي للعلوم التطبيقية بتولوز.

لم يمض عليّ في مدينة تولوز شهر أو شهران على الأكثر, وإذا برسالة تصلني من شقيقي الأكبر المغترب وقتها في الكويت يخبرني فيها بأن والدتي أثناء قيامها لصلاة الفجر سقطت ولم يزد بأية تفاصيل, الأمر الذي أقلقني للغاية وذهبت من فوري لمكتب السيدة إزاخ مسؤولة الطلاب الأجانب في مكتب الخدمات الطلابية أشرح لها بأني لا يمكنني الاستمرار في الدراسة ووالدتي في حالة خطرة. وتأثرت مدام إزاخ تلك السيّدة الجليلة للغاية وأخذت الموضوع بمنتهى الجدية وعلى الفور وجهتني لبلدية تولوز لعمل تأشيرة خروج وعودة بعد أن خاطبت بالتلفون المختص في البلدية ووجهتني في نفس الوقت برسالة للخطوط الجوية الفرنسية لحجز تذكرة سفر وبأسرع خط ممكن لليمن. تأشيرة الخروج والعودة لم تستغرق أكثر من يوم, علما بأنها في الظروف العادية لا يقل استخراجها عن أسبوعين. أما الحجز فقد تم حجز تذكرة سفر بظرف استثنائي ولكن إلى صنعاء, وشرحت لمكتب الطيران أن وجهتي عدن وليست صنعاء وأن اليمن ما زالت يمنين في ذلك الوقت من عام 1984م, وأعيد الحجز مرة ثانية إلى عدن عن طريق الكويت. ووصلت بلدتي الديس الشرقية ووجدت والدتي بصحة ممتازة وما ذاك الخبر الذي استنفرت به الفرنسيين في تولوز ما هو إلا مبالغاً فيه. وبعد قضاء أسبوع أو أسبوعين ما بين الديس وعدن عدت لتولوز لمواصلة دراستي وكأن شيئاً لم يحدث. وكانت مدام إزاخ تتوقع مني خبراً غير سار, والغريب أنها لم تسألني خوفا من إيلامي ولم أتبادل معها أي حديث حول هذا الموضوع بعد ذلك البتة حتى غادرت فرنسا في 27 يوليو 1987م بعد انتهائي من رسالة الدكتوراه. وقد عمّرت والدتي بعد تلك الحادثة قرابة ثمان سنوات, وانتقلت لرحاب الله في 19 مايو 1992م.

كان أستاذي المشرف المباشر شارل هنري ديتريشي ينبهني لموعد صلاة الجمعة إذا رآني منهمكاً في عملي مؤشراً في ساعة يده بأن الوقت قد حان للانصراف لأداء الفريضة, مع إنّ يوم الجمعة يوم عمل رسمي لديهم. سافرت مع هذا الأستاذ المشرف أو نيابة عنه للمشاركة بأبحاث علمية لعدة مؤتمرات علمية عالمية على حساب المختبر منها مؤتمر في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية ومؤتمر في لوزان بسويسرا وزيارة لمختبر في مدريد في اسبانيا, ناهيكم عن الزيارات العلمية المتعدّدة داخل فرنسا نفسها. كان يعمل في المختبر معنا وبقية مختبرات جامعة بول سباتييه بتولوز والتي تضم تحت مظلتها المعهد, باحثون آخرون من سورية والعراق ومصر والسودان والجزائر والمغرب وكثير من الدول الأفريقية ودول شرق آسيا وخاصة من تيلاند. كنّا جميعا نعيش في بيئة علمية واجتماعية سليمة وسط هيئة تدريسية وبحثية وفنيّة متعاونة تحترم منهجية العقل الإنساني وإنتاجه.

كان يُسلّم لنا مفتاح المختبر الرئيس الذي بواسطته تُفتح البوابة الرئيسة للمختبر وأي باب آخر داخله, إذا أراد الباحث العمل في يوم السبت أو الأحد وهما يوما إجازة أو في مساء الأيام العادية. و صدف أن كان رئيس المختبر في أحد الفترات التي يتداول فيها الأساتذة رئاسة المختبر, الأستاذ لوران وهو من الجبهة الوطنية العنصرية التي تتضايق من وجود الأجانب في فرنسا وتود لو تطردهم جميعاً في وقتٍ واحد وهو في نفس الوقت من زعماء الجبهة البارزين في تولوز. وكم مرة أتى هذا الأستاذ في صبيحة يوم أحد ومعه كلب ضخم يطلق عليه "الكلب الذئب" ويجدني في المختبر وحيداً فلا تبدر منه أي ألفاظ مسيئة غير تحية الصباح الفرنسية المشهورة "بنجور" بالرغم من همهمة كلبه المخيف المستعد لأي إشارة منه للانقضاض. وبدأت أتبيّن من ساعتها لماذا أولئك القوم تقدّموا؟ ولماذا نحن تأخّرنا؟

 


*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter