|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  29 / 5 / 2021                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



غزة تنتصر

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

كيف استطاعت غزّة وهي قطاع لا يتجاوز مساحته 360 كيلومتر مربع ويشكل تقريباً 1.3% من مساحة فلسطين التاريخية أن تبارز طوال 11 يوماً عدواً شرساً خاض معارك دامية وخاطفة مع جيوش عدّة بلدان عربية خرج من معظمها للأسف منتصراّ؟ ربما قد تكون معركته الأخيرة في 6 أكتوبر 1973م هي الاستثناء الوحيد في ذاك السجال الرهيب منذ سبعة عقود ونيف. ورغم إن قواعد الاشتباك في معركة غزّة الأخيرة لم تكن وفق معادلة متوازنة, إلا إنها أجبرت ذلك العدو الكاسر أن يرضخ لقبول وقف إطلاق النار عبر وساطة مصرية وضغوطات دولية. لقد أجبرته صواريخ فصائل المقاومة هذه المرّة أن يلجأ للمخابئ التي أنشأها خصّيصاً لمثل هذه الظروف, بعد أن طالت تلك الصواريخ مدن إسرائيلية عدّة بما فيها تل أبيب ذاتها. ليس في الأمر مجرّد استفزازات الصهاينة المحتلّين ومستوطنيهم الغاصبين في باحات المسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح في مدينة القدس الشريفة وحسب, ولكن هناك سجلٌ واسع من انتهاكات حقوق الإنسان, شملت الطفل الفلسطيني والمرأة الفلسطينية ناهيكم عن الإنسان الفلسطيني بشكلٍ عام والتي تصل معظمها لمستوى جرائم الحرب والتي لا تسقط بالتقادم .

لقد تولّت غزّة بمفردها مسؤولية الوقوف في الخطوط الأمامية والتصدّي لهجمات الدك الوحشية لمبانيها وبنيتها التحتيّة المدنية وما أحدث ذلك من خسائر بشرية جسيمة بين قتلى تحت الأنقاض وجرحى إصابة بعضهم بالغة وخطيرة, وكل ذلك من أجل الحفاظ على كرامة أمة تجاذبتها استقطابات إقليمية وتآمرت عليها أطماع دولية منذ عقود عدّة مضت. لقد ارتكبت من سابق عشرات المجازر في البلدات العربية ضد الفلسطينيين أبرزها مجزرة دير ياسين في منطقة القدس ومجزرة الصفصاف في الجليل الأعلى الأمر الذي أدّى إلى هروب أكثر من 700 ألف مواطن إلى الدول العربية المجاورة خوفاً من تصاعد تلك الأعمال الإجرامية البشعة ضدهم. وكانت هناك خطّة مرسومة سلفاً تُنفّذ بدمٍ بارد لتهجير المواطنين العرب من وطنهم آخرها ما حصل في حي الشيخ جرّاح في مدينة القدس.

وعندما قرّر مجلس حقوق الإنسان التابع لمجلس الأمن تشكيل لجنة للتحقيق في إنتهاكات حقوق الإنسان في غزّة كان من الطبيعي أن تعترض عليها دولة الكيان الصهيوني وتؤيدها الولايات المتّحدة وتحدو حدوهما بريطانيا وألمانيا والنمسا وربما بقية الدول الاستعمارية القديمة وهو موقف ليس غريباً عليها.

فحسب المصادر التاريخية التي رُفعت عن وثائقها السرّية أنه في عام 1905م انعقد في لندن مؤتمر استمرّت جلساته حتّى عام 1907م بدعوة سرّية من حزب المحافظين البريطانيين هدف إلى إيجاد آلية تحافظ على تفوّق ومكاسب الدول الاستعمارية التي ضمّت بريطانيا, فرنسا, هولندا, بلجيكا, إسبانيا, البرتغال وإيطاليا, وقد قُدّم فكرة المشروع إلى حزب الأحرار البريطاني الحاكم في ذلك الوقت. وفي نهاية المؤتمر خرج المجتمعون بوثيقة سرّية سموها وثيقة كمبل نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك "هنري كمبل بنارمان" وهو أخطر مؤتمر حصل لتدمير الأمة العربية خاصة والإسلامية عامة, إذ كان هدفه إسقاط النهضة وعدم استقرار المنطقة, لأن استقرارها سوف يكون على حساب تلك الدول الاستعمارية, بل إنهم هم الذين خطّطوا لزرع هذا الجسم الغريب الذي فصل المغرب العربي عن مشرقه دلالة على نيتهم في تمزيق هذه الأمة الواحدة وتشجيع الهواجس التشطيرية وبث نوازع التمزق والانقسام فيها. لقد تيقنوا في مؤتمرهم ذلك أن خطورة الشعب العربي تأتي من عوامل عدّة يملكها ومنها وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد عدد السكان. ورأى المؤتمرون ضرورة العمل على استمرار وضع المنطقة العربية في حالة عدم اتزان واستقرار وعلى إيجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها, ولذا أكدوا على فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي وضرورة إقامة الدولة العازلة عدوّة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية وهكذا كانت إسرائيل وقادتها جاهزين لهذا الدور. وبالتالي فإن نكبة فلسطين قطعاً لم تبدأ يوم 15 مايو 1948, بل بدأت في مطلع القرن المنصرم, سبق ذلك عشرات السنين من التهيئة الصهيونية لهذا اليوم الذي أسماه العرب والفلسطينيون بيوم النكبة وأسماه الطرف الآخر بيوم الاستقلال.

وتجدر الإشارة بأن إحدى الدراسات الصهيونية الصادرة عن معهد الدراسات الاستراتيجية تحت عنوان استراتيجية اسرائيل في الثمانينات جاء فيها "إن العالم العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات, فهذه المنطقة قُسّمت عشوائياً إلى 19 دولة تتكون كلّها من مجموعات عرقية مختلفة ومن أقليات يسودها العداء لبعضها. وإن هذا هو الوقت المناسب لدولة اسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي." وتشجعت إسرائيل في تنفيذ سياساتها العنصرية ضد الشعب الفلسطيني المحاصر أصلاً في أرضه بأن جرفت أراضيه وهدّدت أهالي حي الشيخ جرّاح بإخلاء بيوتهم ناهيكم عن إنتهاكاتهم المتكرّرة لباحات المسجد الأقصى واستفزاز المصلّين فيه. إلّا إن هذا التصرّف المستفز جرّ إلى تعاطف الشعوب الحرّة مع شعب فلسطين وقضيته العادلة بما يشكلّه المسجد الأقصى والأماكن المقدّسة حوله من قيمة دينية ذات أهمية خاصة ليس للمجتمع الفلسطيني وحسب ولكن للمجتمع الإسلامي والدولي عامة.



المكلا في 25 مايو 2021م


*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter