|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  28  / 2  / 2024                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



شريعة الغاب

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

ربما كنتُ أكنُّ للرئيس الفرنسي الراحل (فرانسوا ميتران) كثيراً من الامتنان لأنني تحصلتُ في عهده على منحة دراسية لدراسة الدكتوراه في فرنسا عام 1982م, تنقلّتُ فيها في السنة الأولى وهي التي يُسمّيها مكتب البعثات في فرنسا بسنة الاستقبال بمدينتين رائعتين أثناء فترة تعلّم اللغة الفرنسية وهما روان وبيزنسن قبل الاستقرار في المدينة الوردية الجميلة مدينة تولوز في جنوب فرنسا لمدة أربع سنوات لاستكمال برنامج الدكتوراه في مختبر المواد بالمعهد القومي للعلوم التطبيقية تحت الإشراف المباشر للأستاذ المتقاعد حاليا (شارل هنري دي تريشي) والإشراف العام للأستاذ الراحل (جون كلود مازو) رئيس مختبر الهندسة المدنية وقتها. وليس في الأمر مجرّد الامتنان وحسب ولكني تأثرتُ كثيراً بمظاهر الإنسانية الشفّافة ومنظومة القيم الخلقية التي تحيطُ بالمجتمع الفرنسي وبالذات في مدينة تولوز ومدى التقدير لعمل الإنسان والاحترام لعقله ومنهجيته التي يعمل بموجبها.

مكّني مختبر المعهد القومي للعلوم التطبيقية بتولوز من السفر لخارج فرنسا للمشاركة مُمثّلاً لأساتذتي بأبحاث علمية في كل من لوزان بسويسرا وبوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية, ناهيكم عن عدة مشاركات علمية على مستوى الداخل الفرنسي. كما تمكنتُ بفضل سمعة المعهد العلمية من زيارات علمية وثقافية لكل من مدريد ومدن الأندلس الإسلامية طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة وعاصمة المملكة المتحدة لندن وبعض مدنها التاريخية والعلمية مثل اكسفورد وكمبردج. واليوم في عهد الرئيس الحالي أمانويل ماكرون, وقد غبتُ عن فرنسا قرابة أربعة عقود, ربما شاهد الكل اللفتة الإنسانية الرائعة التي أبداها تجاه ذلك المهاجر الذي دخل فرنسا بطريقة غير شرعية والذي أنقذ طفلاً فرنسياً من السقوط من الدور الرابع لأحدى البيوت بأن منحه الجنسية الفرنسية وألحقه بجهاز الإطفاء في فرنسا. ولديّ الكثير من المواقف الإنسانية المؤثرة التي مررتُ بها أو مرّ بها زملائي الباحثون المبتعثون لا يسعُ المجال لسردها في هذه العجالة.

ولكني لن أنسى على المستوى العام تلك الأحداث الصاخبة عام 1986م التي أعقبت تولّي اليمين بقيادة (جاك شيراك) الوزارة ولمّا يزل الرئيس اليساري (فرانسوا ميتران) في سدة الحكم ولم تنته مدّة ولايته بعد. فقد تبنّى وزير التعليم العالي الجديد وهو من حزب اليمين بطبيعة الحال قانوناً لتخصيص التعليم العالي في بعض الجامعات الفرنسية ومنها جامعة السوربون العريقة في الحي اللاتيني وسط باريس, بأن تفرض على طلابها بعض الرسوم الدراسية. هاج الشارع الفرنسي في كل المدن الكبيرة وخرج الشباب الغاضب المحتج على هذه السياسة الجديدة وربما كان الأمر في باريس العاصمة أكثر ضراوة بأن استخدم رجال مكافحة الشغب وسائل عنيفة ومفرطة في القسوة, مات على أثرها شاب فرنسي من أصول جزائرية خاله رجال الشرطة مهاجراً دخيلاً. ذاك ضرب الوتر الحسّاس في النسيج الاجتماعي الفرنسي وخرج الشباب في اليوم اللاحق بمظاهرات أكثر حدة وغضباً بشعار ما زلتُ أذكره تماماً حتى اليوم " أبداً لا تفعلوا مثل هذا أبداً". وفي أمسية ذلك اليوم الكئيب رأى الناس على القناة الفرنسية الأولى الرئيس الفرنسي وهو يزور عائلة الشاب المقتول بسحنته الحزينة وهو يُعزّي تلك العائلة المفجوعة في ولدها. وسحبت الجمعية الفرنسية ذلك القانون واستقال وزير التعليم العالي المسمّى كما أذكر (دي فاكو).

ولا يعني هذا أننا أمام سجل ناصع خالٍ من أي نقاط سوداء, ففرنسا كانت في يوم من الأيام مُستعمِرة لكثير من الدول بما فيها دول عربية, مارست في بعضها أشد أنواع البطش والفتك والتنكيل, حتى صرنا نطلق على الجزائر التي قاومت الاستعمار الفرنسي ببلد المليون شهيد. وربما صَدقَ القول بأنها تعاملت مع الثورة الجزائرية بمنطق شريعة الغاب, ومع ذلك يجب التفرقة بين نظام الحكم في بلدٍ ما وبين شعب ذلك النظام فالأمر ليس بسيّان.

وفي المقابل, تمرُّ في مخيلتي دائماً وربما لن أنساها حالات من مشاهد بشعة في التعامل مع الإنسان وفي دول عدّة ومنها العربية للأسف الشديد, يحركّها الحقد والكراهية وحب الانتقام غير المنطقي. الحالة الأولى منظر الشباب الذين يساقون في العراء في رمال سيناء ويُنفذ فيهم الإعدام الفوري دون محاكمات وإجراءات قانونية آخرها ذلك الطفل الذي سيق للرمال وأمر الضابط بأن يُغطّى وتم إطلاق النار على رأسه وبزخّات من الرصاص القاسي على ظهره وبدم بارد متهكّما على استغاثات الطفل بأمه بأن لا يخاف, فأبوه سوف يأتي لأخذه. وحالة أخرى أشد إيلاما وقسوة في القدس الشريف وكيف رأى الناس منظر ضابط الشرطة الصهيوني وهو يخنق طفلاً فلسطينياً حتى الموت على مرأى ومشهد من الواقفين, بل فيهم من ساعده بتثبيت قدمي الطفل الذي كان يصارع عملية الخنق البشعة بمحاولة النطق بالشهادتين. وحالة ثالثة أشد بشاعة في جمهورية أفريقيا الوسطى إذ شاهد الناسُ في منظرٍ حي ومباشر مليشيات من المتعصّبين وهم يُخيّرون أفراد من الجالية الإسلامية بين التنصّر أو الموت ذبحاً. ولما ثَبَتَ أولئك النفر على دينهم نُفّذ فيهم الذبح كذبح الشاه على شفا حفرة حفروها حيث تُدفع جثّة المذبوح ركلاً فيها في منظر لم تر الدنيا مثيلاً له إلا في شريعة الغاب.

وحالات مؤلمة في أحداث البوسنة, ربما الكل يذكرُ منها الكثير, وهي سجل بشع من حالات الإبادة الجماعية والممارسات الدموية في حق البوسنيين يصعبُ على كتب التاريخ رصدها وتجاهلها. وفي ميانمار وما أدراك ما ميانمار, وقائمة بمثل هذه المشاهد قطعا تسوّد تاريخ أي نظام يمارسها دون وازع من ضمير أو روح إنسانية. ولا أود أن أقلب المواجع عما حصل في العراق العظيم أرض الرافدين من ممارسات غير إنسانية ربما شاركت فيها معظم الأطراف المتصارعة بما فيها قوى الاحتلال البغيض. وما يحصل في سوريا وأرضها الطيبة ليس ببعيد وكذا الأمر في ليبيا أرض شيخ الشهداء عمر المختار واليمن أرض الحكمة والإيمان ولو بدرجات أخف.

أما آخر هذه المآسي الإنسانية هو ما يحصل اليوم في غزة من مذابح إجرامية وتجويع مروّع ومجازر دموية وإبادة جماعية لم ترَ لها البشرية مثيلاً على مدار التاريخ. كل ذلك بدعم مطلق من قبل الإدارة الأمريكية من تزويد الكيان الصهيوني بالأسلحة الذكية الفتّاكة وعرقلة كل قرارات مجلس الأمن التي تدعو لوقف إطلاق النار والسماح بالمساعدات الإنسانية أن تعبر القطاع المنكوب. وربما صحوة ضمير نبيلة أقدم عليها قبل يومين ذلك الطيّار في البحرية الأمريكية ( آرون بوشنل) بأن أحرق نفسه أمام سفارة الكيان الصهيوني في واشنطن احتجاجاً على حرب الإبادة الجماعية في غزة. لعل هذه التضحية الجسيمة في عقر دار الولايات المتحدة أن تزيد من احتجاجات الشارع الأمريكي بل العالم أجمع على ممارسات الكيان الصهيوني اللا إنسانية و اللا أخلاقية, والضغط الشعبي العارم عليه بإيقاف ذلك المدى المفرط في شريعة الغاب.


المكلا في 27 فبراير 2024م
 


* نائب رئيس جامعة حضرموت السابق
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter