|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  27 / 5 / 2020                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



قراءة في جذور التاريخ

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

شدّني للغاية في إحدى ليالي عيد الفطر المبارك أوبريت غنائي رائع وجاد تصدح به بحماس نابع من القلب كل من جوليا بطرس وسوسن الحمادي وأمل عرفة "وين الملايين؟ الشعب العربي وين؟". وكانت كلمات الأوبريت الاستفهامية المدوّية والنفس الثوري العروبي المفقود هذه الأيام يستفز المشاعر العربية في وقت يعاني فيه الواقع العربي صنوفاّ من الذل والهوان والإذلال والضعف في أقصى مداه. لقد كانت في عقود الخمسينات والستينات علامات فاصلة في مسيرة الجيل الذي أنتمي إليه الذي وُلد في زخم ذاك المد القومي العروبي وزخم أحداثه العظام. وربما كانت هناك رؤى وأفكار تتمحور في مجملها حول وحدة هذه الرقعة الجغرافية العربية الواسعة التي تمسك بزمام المنافذ الاستراتيجية المهمة في العالم مثل مضيق هرمز ومضيق باب المندب وممر قناة السويس ومضيق جبل طارق.

كما تؤكد معظم الأدبيات والوثائق الصادرة في ذلك العهد بأن هذا العالم العربي الكبير الممتد من محيطه إلى خليجه يمتلك من الإمكانيات البشرية والمادية والروحية الكثير, وظلّ يشكّل وحدة طبيعية متكاملة تجمع شعوبها روابط وعوامل كثيرة منها وحدة الأرض ووحدة اللغة ووحدة المصلحة ووحدة المصير, ولكنه مع ذلك يعاني حالات من عدم الاستقرار والفوضى في معظم بلدانه. فهل يا ترى إن تلك الأوضاع من عدم التوازن والاستقرار ناتجة عن أحداث طبيعية ومنطقية؟ إذ أنه من الواضح أن معظم دول المنطقة تحتدم فيها الصراعات الأهلية والعرقية الدموية والاضطرابات الطائفية والجهوية المقيتة, ناهيكم عن خروج بعض الشعوب فيها في مظاهرات واحتجاجات غير منظمة على أنظمة الحكم المتسلّطة عليها, لم يسفر عن معظمها غير تمكّن الدولة العميقة فيها من إعادة تدوير نفسها.

إن بؤرة هذا الصراع تتركز في أرض فلسطين وشعبها المشرّد والمنكوب منذ قرابة أثنين وسبعين سنة عجاف, لم ترَ المنطقة فيها فترة سكينة واستقرار, وما زال كثير من اللاجئين يحملون مفاتيح بيوتهم التقليدية في مخيماتهم يورّثونها لأبنائهم. ومع ذلك فإننا لن نحاول تتبع جذور تاريخ موغل في القدم, فذاك أمرٌ أكبر من تصوّرنا وأوسع من تقديرنا, ولكنّا سوف نتتبّعها في فترة زمنية منظورة في تاريخنا القريب ربما تتجاوز حدود القرن من الزمان بسنوات معدودة.

تقول المصادر التاريخية التي رُفعت عن وثائقها السرّية أنه في عام 1905م انعقد في لندن مؤتمر استمرّت جلساته حتّى عام 1907م بدعوة سرّية من حزب المحافظين البريطانيين هدف إلى إيجاد آلية تحافظ على تفوّق ومكاسب الدول الاستعمارية التي ضمّت بريطانيا, فرنسا, هولندا, بلجيكا, إسبانيا, البرتغال وإيطاليا, وقد قُدّم فكرة المشروع إلى حزب الأحرار البريطاني الحاكم في ذلك الوقت.

وفي نهاية المؤتمر خرج المجتمعون بوثيقة سرّية سموها وثيقة كمبل نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك "هنري كمبل بنارمان" وهو أخطر مؤتمر حصل لتدمير الأمة العربية خاصة والإسلامية عامة, إذ كان هدفه إسقاط النهضة وعدم استقرار المنطقة, لأن استقرارها سوف يكون على حساب تلك الدول الاستعمارية, بل إنهم هم الذين خطّطوا لزرع جسم غريب يفصل المغرب العربي عن مشرقه دلالة على نيتهم في تمزيق هذه الأمة الواحدة وتشجيع الهواجس التشطيرية وبث نوازع التمزق والانقسام فيها.

لقد تيقنوا في مؤتمرهم ذلك أن خطورة الشعب العربي تأتي من عوامل عدّة يملكها ومنها وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان. ورأى المؤتمرون ضرورة العمل على استمرار وضع المنطقة العربية في حالة عدم اتزان واستقرار وعلى إيجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها, ولذا أكدوا على فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي وضرورة إقامة الدولة العازلة عدوّة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية وهكذا كانت إسرائيل وقادتها جاهزين لهذا الدور.

وبالتالي فإن نكبة فلسطين قطعاً لم تبدأ يوم 15 مايو 1948, بل بدأت في مطلع القرن المنصرم, سبق ذلك عشرات السنين من التهيئة الصهيونية لهذا اليوم الذي أسماه العرب والفلسطينيون بيوم النكبة وأسماه الطرف الآخر بيوم الاستقلال.

وفي إحدى الدراسات الصهيونية الصادرة عن معهد الدراسات الاستراتيجية تحت عنوان استراتيجية اسرائيل في الثمانينات جاء فيها "إن العالم العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات, فهذه المنطقة قُسّمت عشوائياً إلى 19 دولة تتكون كلّها من مجموعات عرقية مختلفة ومن أقليات يسودها العداء لبعضها.

وإن هذا هو الوقت المناسب لدولة اسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي." وذاك لعمري ما حصَلَ ويحصُل هذه الأيام على وجه اليقين, فقضية فلسطين وهي قضية العرب والمسلمين المركزية تراجعت كثيرا لتصبح للأسف بقعة ضئيلة وباهتة في محيط الاهتمام العربي والاسلامي ناهيكم عن الاهتمام الدولي والأممي, بل أصبحت ضمن بنود صفقة تجارية عُرفت اليوم بصفقة القرن.

فهل يا ترى من مراجعة إنسانية لها ووقفة دولية جادّة لحلّها؟ وهل يا ترى من استفاقة لشعوب هذه المنطقة واستعادة وعيها ونحن نقرأ ما خُطّطَ له في جذور التاريخ؟
 


المكلا في 25 مايو 2020م


*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter