|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  27  / 8  / 2022                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



بين بيروقراطية الشرق والغرب

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

انصرمت أربعة عقود بالوفاء والتمام منذ ذهابي لفرنسا عام 1982م ثم مغادرتي لها من مطار شارل دي جول الدائري الأنيق عقب انتهائي من رسالة الدكتوراه عام 1987م من المعهد القومي للعلوم التطبيقية بمدينة تولوز الوردية. واصلتُ عملي في جامعة عدن المُبتعث منها أصلاً ثم انتقلتُ مُضطراً لجامعة حضرموت بسبب حرب 1994م وتداعياتها في عدن وتعرضي لحالات قهرية خاصة ليس المجال مناسباً لشرح تفاصيلها. عملتُ في هذه الجامعة الوليدة نائباً لرئيس جامعتها المرحوم الأستاذ الدكتور علي هود باعبّاد بضربة قضاء وقدر أول ما وطأت قدماي أرض مدينة المكلا عروس بحر العرب البيضاء. وعندما انتهى عملي الرسمي في جامعة حضرموت في فبرابر 2002م, انتقلتُ لجامعة الأندلس للعلوم والتقنية في صنعاء في نفس العام بطلب من مؤسسيها الأفاضل متدرّجا فيها من مستشار أكاديمي في بداية إنشائها ثم وكيلا لها حتى وصلتُ لرئاستها خلال فترة مكوثي الكاملة في صنعاء من 2002م حتى 2008م, وانتهى بي المطاف أخيراً بالعودة لجامعة حضرموت لفترة قصيرة اختتمتُ بها خدمتي الرسمية عميدا لكلية الهندسة أبان رئاسة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن محمد بامطرف أطال الله عمره من عام 2009م حتى عام 2012م, أُحلتُ بعدها للتقاعد في عام 2014م.

كم كان بودّي أن أتعرّض ولو بإيجاز لمواقف بعض الشخصيات التي تشرّفتُ بمعرفتها هناك فيما وراء البحار وهم كثير, ولكني سأكتفي في هذه العُجالة بموقف شخصية مفصلية واحدة وهي السيّدة أو بالتعبير الفرنسي مدام إزاخ, العاملة في هيئة الخدمات الطلابية ومسؤولة مكتب خدمات الطلاب الأجانب في مدينة تولوز. لم تتغيّب هذه السيدة الجادة قط عن مكتبها في أوقات الدوام الرسمي, وإذا كان لديها أي طارئ وهو نادر الحدوث فإنها تترك إعلاناً واضحاً على باب مكتبها قبل أيام من تغيّبها باسم الشخص المُكلّف بعملها أثناء غيابها ورقم مكتبه للذهاب إليه إذا احتاج المبعوث أي إجراء أو مساعدة.

ولعل البداية المُشجّعة في رحلة الدراسة تلك نحو أوروبا وفرنسا بالتحديد أني كنت أحمل رسالة في نهاية شهر سبتمبر 1982م قبيل سفري من الأستاذ الدكتور محمد سعيد العمودي أطال الله عمره عميد كلية الهندسة بجامعة عدن حين ابتعاثي والذي أصبح فيما بعد رئيساً لجامعتها إلى الأستاذ المشرف عليه أثناء دراسته وتحضيره لدكتوراه الدولة في منبلييه الأستاذ باتريك جنستي بخصوص تسهيل التحاقي بأحد الجامعات الفرنسية, أرسلتها لعنوانه بالبريد أول ما استقر بي المقام في مدينة روان شمال باريس لدراسة اللغة الفرنسية. وتواصل معي ذلك الأستاذ النبيل دون أن أقابله ووجهني لمدير مختبر الهندسة المدنية بالمعهد القومي للعلوم التطبيقية بتولوز الأستاذ جون كلود مازو والذي انتقل لرحاب الله منذ سنوات. لم يمض على قدومي إلى تولوز شهر أو شهران على الأكثر وانتظامي في الجانب العملي لدبلوم الدراسات المعمّقة المُقرّر على طلاب الدكتوراه, إذ أُعفيتُ من الجانب النظري باعتبار أني أحمل شهادة ماجستير من الهند عام 1979م, وإذا برسالة تصلني في البريد من شقيقي سعيد عليه رحمة الله والمغترب وقتها في الكويت يخبرني فيها بأن والدتي أثناء قيامها لصلاة الفجر سقطت ولم يزد بأية تفاصيل, الأمر الذي أقلقني للغاية وذهبتُ من فوري لمكتب السيدة إزاخ أشرح لها بأني لا يمكنني الاستمرار في الدراسة ووالدتي في حالة خطرة. وتأثرت مدام إزاخ للغاية وأخذت الموضوع بمنتهى الجدية وعلى الفور وجّهتني لبلدية تولوز لعمل تأشيرة خروج وعودة بعد أن خاطبت بالتلفون المختص في البلدية وأنا وجالس أمام مكتبها كالمتوسّل لطوق نجاة, ووجّهتني في نفس الوقت برسالة للخطوط الجوية الفرنسية لحجز تذكرة سفر وبأسرع خط لليمن. تأشيرة الخروج والعودة لم تستغرق أكثر من يوم, علما بأنها في الظروف العادية لا يقل استخراجها عن أسبوعين, أما الحجز فقد تم حجز تذكرة سفر بظرف استثنائي ولكن إلى صنعاء, وشرحت لمكتب الطيران أن وجهتي عدن وليست صنعاء وأن اليمن مازالت يمنين في ذلك الوقت من عام 1984م, وأعيد الحجز مرة ثانية إلى عدن عن طريق الكويت. ووصلت بلدتي الديس الشرقية ووجدتُ والدتي بصحة ممتازة وما ذاك الخبر الذي استنفرتُ به الفرنسيين في تولوز إلا مُبالغٌ فيه. وبعد قضاء أسبوع أو أسبوعين ما بين الديس الشرقية وعدن عدتُ لتولوز لمواصلة دراستي وكأن شيئاً لم يحدث. وكانت مدام إزاخ تتوقع مني خبراً غير سار, والغريب في الأمر أنها لم تسألني خوفا من إيلامي ولم أتبادل معها أي حديث حول هذا الموضوع بعد ذلك البتّة حتى غادرتُ فرنسا في 27 يوليو 1987م. وقد عمّرت والدتي بعد تلك الحادثة قرابة ثمان سنوات, وانتقلت لرحاب الله في 19مايو 1992م.

أذكر أني في عصرية ذلك اليوم بالذات 19مايو 1992م تلقيتُ مكالمة هاتفية من الولد محمد ابن شقيقي الأكبر المرحوم عمر ينعي فيها وفاة والدتي الغالية ظهر نفس اليوم, فلبستُ ثياب الخروج على عجل وانطلقتُ من توّي للمعلّا إذ كان يوجد في شارعها الرئيسي مكتب الحجز للخطوط الجوية اليمنية والتي تُعرف وقتئذ "باليمدا" أي طيران اليمن الديمقراطي. ناولتُ موظّف مكتب الطيران بقلق متزايد بطاقتي الشخصية للحجز وبملغ زهيد لا يتعدّى 600 ريال تم الحجز لصبيحة اليوم التالي عدن – المكلا, إذ كان الحظ حليفاً معي فقد كانت هناك طائرة في ذلك اليوم وكان هناك مقعد شاغر بها وهذا هو الأهم, وبمقارنة الوضع آنذاك وبما أصبحنا فيه اليوم تتضح الهوّة الكبيرة بينهما.

فاليوم لم يعد مطار الريان الدولي مفتوحاً أمام الملاحة الدولية واستخدمته قوات التحالف المخوّلة من مجلس الأمن تحت ما يُسمّى البند السابع لأغراض أمنية خاصة ومعقّدة , لم تستطع مناشدات منظمات المجتمع المدني ولا الأوامر الرئاسية المتكرّرة في تحريك الوضع نحو الانفراج وفتح المطار حتى لدواعي إنسانية, الأمر الذي فاقم من معاناة الناس الذين يضطرون للسفر لمطار سيئون على بعد أكثر من 350 كيلومتر للسفر للخارج لعلاج حالات مستعصية لأهاليهم ولأقاربهم, الذين يعود بعضٌ منهم للأسف في توابيت الموتى المثلجة في أجنحة شحن الطائرات.

أوقفوا هذه الحرب الظالمة والعبثية التي لم يستفد منها إلا تجّار الحروب والبيروقراطية المترهلة في فنادق الرياض والقاهرة وإسطنبول بجانبها الحكومي والمعارض ومن لف لفيفهم من الأبواق الإعلامية المأجورة الذين يتقاضى بل يزيد أقل راتب لواحدٍ منهم راتب أستاذ جامعي بخبرة 35 سنة بعشرات المرات.
 


المكلا في 26 أغسطس 2022م
 


* نائب رئيس جامعة حضرموت السابق
ورئيس جامعة الأوائل الحديثة حالياً
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter