|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  27 / 10 / 2017                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



ما بين باريس ونيو يورك

د. سالم رموضه
(موقع الناس)

هناك أكثر من سبب يجعل كثيراً من الناس تجفل من أمريكا رغم إعجاب الكثير بتجربتها الديموقراطية وسباق الانتخابات الرئاسية فيها وما يصاحبها من حملات إعلامية صاخبة ومنافسة حادة بين المرشحين وطريقة احتساب الأصوات وعملية الاقتراع ومهرجانات تسليم السلطة للرئيس المنتخب. كما إني من الناس الذين لا يخفون إعجابهم بنظام التعليم العالي فيها وبجامعاتها العريقة والتي تتبوأ دائماً المراتب العليا في التصنيفات الدولية لترتيب الجامعات. ذهبت إليها مرة واحدة فقط في عام 1986م أثناء فترة الدكتوراه في فرنسا في مدينة تولوز الوردية والجميلة وذلك للمشاركة نيابة عن أساتذتي بالمعهد القومي للعلوم التطبيقية بتولوز بورقة بحثية في مؤتمر الخريف لجمعية مواد البناء الأمريكية. وكان انعقاد المؤتمر العلمي في مدينة بوسطن بولاية ماتشوسيتش والتي بها جامعة هارفارد ومعهد ماتشوستش للتكنولوجيا وهما على قمة الترتيب الدولي للجامعات على مستوى جامعات العالم كلها. هل لذلك الانقباض من أمريكا علاقة بالفارق الثقافي بين فرنسا التي قدمت منها وبين أمريكا بضحالة الموروث الثقافي والحضاري فيها؟ أم أن لذلك الانقباض تراكمات نفسية تولدت جرّاء علاقة قادتها بقضايا أمتنا وعدم إيلائهم الاهتمام الإنساني العادل؟ ومعاداتهم بشكل سافر لأي توجه يجنح للكيل بمكيال واحد في التعاطي مع تلك القضايا؟ أم إن ثالثة الأثافي هو التاريخ الدموي لهذه الدولة العظمى التي بنت أركانها على سلسلة من الجرائم البشعة في حق السكان الأصليين وهم قبائل الهنود الحمر.

فمنذ استيلاء المستعمر الأوروبي على أراضيهم تم التخلص منهم وإبادتهم بدون رقيب أو حسيب غير مراعين أي حرمة لقانون أو إنسانية رغم أن السكان الأصليين أناس بسطاء لا يملكون سلاح قتال. ولم تتبقّ طريقة مهما كانت بشاعتها إلا واستخدمت ومنها نقل الأوبئة والأمراض لهم كوسيلة حرب بيولوجية عن طريق إهدائهم الأغطية الحاملة لأمراض الجدري والحصبة والطاعون والكوليرا والتيفويد والدفتيريا والسعال الديكي والملاريا وبقية الأوبئة التي كانت تحصدهم حصداً لعدم وجود مناعة لديهم, ومن يتبقّ منهم يتم حصده بالبنادق. كما أحرقوا محاصيلهم ليفتك بهم الجوع وسمّموا آبارهم وخلطوا مياهها بالعقاقير المعقمة حتى لا ينجبوا أطفالاً وأجيالاً جديدة وينقطع دابرهم إلى الأبد. كما خطفوا بناتهم وأبناءهم للعمل في الحقول والمناجم حتى الموت. هذه هي أمريكا بتاريخها الدموي, فلا غرابة أن لا تبدي تعاطفا مع قضايا المغلوبين والمقهورين في كوكبنا ومنها مشكلة الشعب الفلسطيني الذي شُرّد من أرضه بوسائل مشابهة. مثل ذلك الوضع ربما ينطبق على بقية المستعمرين ولكن بدرجة أخف بما في ذلك الاستعمار الفرنسي نفسه, ولكن فرنسا التي عشت فيها قرابة خمس سنوات وسط شعب يختلف اليوم عن فرنسا الأمس وإن كان الإنسان لم يتبدّل جوهريا, ظل هو الإنسان المهتم بثقافة الشعوب والحريص على فهم تلك الثقافة من منظور إنساني وأخلاقي.

لقد كنت في أروقة معهد ماتشوسيتش العريقة بمدينة بوسطن التي تضج اليوم بأكثر من 11 ألف طالب وحوالي 960 عضو هيئة تدريس حاز منهم 64 على جائزة نوبل, وكنت أسمع عبر القنوات الفضائية ما يدور في فرنسا. فقد سقطت حكومة اليسار فيها وجاءت الانتخابات النيابية بحكومة يمينية برئاسة جاك شيراك رغم أن رأس الدولة ما زال من الحزب الاشتراكي وهو فرانسوا ميتران. ووسط تلك الأجواء الانقلابية أراد وزير التعليم العالي الجديد وأظن أن اسمه ديفاكو أن يمرر قانونا جديدا يتعلق بنظام القبول في الجامعات الفرنسية الحكومية الأمر الذي يسمح لكل جامعة أن تفرض رسوماً دراسية على الطلاب بمن فيهم الطلاب الأجانب. واشتعلت مظاهرات الطلاب في كل مدينة في فرنسا بما فيها العاصمة باريس مندّدين بالقرار وبالوزير اليميني الجديد. ربما أمام ضراوة المظاهرات وشدتها استخدمت سلطات مكافحة الشغب الهراوات وتعاملت بقسوة مع المتظاهرين, ولفت انتباه رجال الدرك متظاهر يبدو من سحنته أنه ليس بالفرنسي الأصل وتابعوه لركنٍ التجأ إليه بالعصي والهراوات في موجة حقد دفينة ظهرت فجأة رغم إطفائها منذ عقود ومات ذلك المتظاهر.

وإثر ذلك اشتعلت مرة أخرى موجة جديدة وعاتية من المظاهرات بشكلٍ غير قابل للسيطرة وارتج الشارع الفرنسي باحتجاجات الشباب الثائر على مقتل الشاب ذي الأصول المغاربية حاملين شعاراً واحداً ما زلت أتذكّره تماماً: " لا تفعلوا مثل هذا أبداً " وحاولت السلطات تهدئة الشارع المشتعل بأن ذهب رئيس الدولة في موقف مؤثر لتعزية أسرة الشاب في أحد ضواحي باريس في نقل حي على القنوات الفرنسية, وهذا المظهر نادرٌ ما يحصل. عرفت يومها كيف يحترم الإنسان في بلادهم فقد سحبت الجمعية الوطنية الفرنسية قرار السيد ديفاكو بل وأُسقطت عضويته من الوزارة المشكلّة. وعادت إجراءات التعليم العالي وأنظمة القبول كما كانت على الأقل في تلك الفترة التي عاصرتها. أما في نيويورك وبوسطن فقد آلمتني مظاهر ظلّت عالقة في ذهني حتى اليوم, ورغم أني كنت أحمل كمرا شخصية للتصوير إلا إني لم التقط بها أي صورة للتذكار من أمريكا, ولكن صور الذاكرة كانت كثيرة منها أني عندما دلفت مع المسافرين مطار جون كنيدي في نيويورك كانت هناك لوحتان واحدة خضراء للذين ليست لديهم أي أشياء للتصريح ولائحة أخرى حمراء لمن لديهم ما يصرّحون به لسلطات المطار.

طبيعيا سلكت الخط الأخضر ولكني استدعيت من قبل موظفة سوداء بدينة بشكل ملفت لتسألني: لماذا قدمت؟ وماهي وجهتك؟ وأين ستسكن؟ وكانت لدي الأجوبة الصريحة والواضحة. وفي موقفٍ آخر دخلت بريد نيويورك وفتحت إحدى كابينات الهاتف لأتفاجأ بشيخ كبير يغط في نوم عميق مقوساً جسمه بمساحة الكابينة. وفي محطة المترو التي لا يمكن مقارنتها بمحطات مترو باريس الأنيقة, شاهدت طفلاً صغيراً مشرّداً يعد في راحة يده نقودا معدنية يبدو إنه كسبها من التسول. وفي أحد شوارع نيويورك المكتظة بالمحلات التجارية دخلت إحداها لشراء شيء كنت أحتاجه لأكتشف أن البائع يهوديا عرّفني هو بنفسه. وفي ناصية أخرى هناك من نصب كرتوناً مجسماً لصورة الرئيس ريجان بالمقاس الطبيعي مبتسماً وينادي المارّة من يتصوّر مع الرئيس.

ولا أريد أن أكون متطرّفا لآخر الشوط في الحكم على أمريكا من خلال زيارة لمهمة بحثية لم تستغرق الأسبوع الواحد وعرفت فيها مدينتين فقط بما تحملانه من سلبيات وإيجابيات. ففي نيويورك تمثال الحرية الشامخ في خليجها الجميل وبها المتحف البحري الرائع الذي يمكنك أن تشاهد عبر الزجاج الشفاف أسماك القرش المفزعة وبقية الحيوانات البحرية وبها مبنى الأمم المتحدة الذي يفتح أبوابه للسواح والزائرين لتشاهد صور ونماذج من مخلفات الدمار في هوريشيما ونيازاكي اليابانيتين. وحتى هذه تعد إدانة بالغة لسياسة أمريكا ولفهم لماذا يجفل الكثير منها؟
 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter