|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  23 / 9 / 2020                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



الدولة بين غيابها وضياع هيبتها

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

تهلُّ علينا بعد أيام قلائل الذكرى 58 لثورة 26 سبتمبر 1962م المجيدة التي انتزعت شمال اليمن من عصور التخلف والاستبداد ووضعتها على عتبات نظام جمهوري ما فتئت تتآمر عليه قوى إقليمية ودولية شأنها شأن بقية الدول العربية الأخرى التي انفكت من ربقة الاستعمار المهيمن عليها منذ عقود طويلة. ومع ذلك فإنه لا يختلف كثيراً ما حدث في العراق العظيم فترة ما بعد احتلال القوات الأمريكية لأراضيه الطاهرة وما يحدث في اليمن اليوم الذي كان سعيداً فيما مضى من سالف أيام موغلة في القدم, وأصبحت معاناة شعبه وشقائه لا يقصيها بيان.

كان العامل المشترك بينهما هو غياب هيبة الدولة وعدم مقدرتها على بسط نفوذها وسيادتها على مفاصل الحياة الاجتماعية والسياسية فيها وإن تغيّر الوضع ربما في العراق نحو حالات أفضل, إلا إن الألم يكون جارحا عندما يتم خطف الناشطين السياسيين وتصفية الخصوم بطريقة وحشية, آخرها ما حصل في بغداد من اغتيال المحلل السياسي هشام الهاشمي ومن محاولة اغتيال الناشط الحقوقي زيدون عماد.

وفي اليمن جرّاء حرب عبثية تستكمل عامها السادس بين أطراف تحارب بالوكالة وتستمر كشوفات الدفع المخزية لتستنزف خيرات البلاد لدرجة أن يُطلق صاروخ متطّور تزيد قيمته عن مليون دولار على آلية عسكرية خربة لا يتجاوز قيمتها الخمسة آلاف دولار, ناهيكم عن ما يتكبّده الشعب اليمني من قتل وتشريد ودك لمنازله وبنيته التحتية المتهالكة أصلاً.

وتستمر عمليات انتهاك حقوق الإنسان في كل مكان, ناهيكم عن تردّي الخدمات الأساسية للمواطنين بشكل غير مسبوق. وفي حادثة سابقة, فوجئت مثل كثير غيري بمقتل الأخ عبدالله التميمي الملقب بدحروج, ذلك الإنسان البسيط, وكان مقتله في وضح النهار وفي مكان عام أمام مستشفى ابن سيناء التعليمي بـ (فوة) إحدى ضواحي مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت.

لقد التقيت به مصادفة في ساحة إدارة جامعة حضرموت, إذ ناداني الرجل من بعيد كعادته للسلام وللاطمئنان على الصحة, وكان جالساً مع نفرٍ من أفراد الحراسة في الجامعة وهبَ بشوشاً للقائي, فقد جمعتنا سنواتُ عمل عندما كنت أشغل منصب نائب رئيس الجامعة من بداية تأسيسها عام 1996 ولست سنوات كاملة, وكذلك عندما عملت عميداً لكلية الهندسة في نفس الجامعة من عام 2009 حتى عام 2012 في فترة خدمتي الأخيرة بناء على تكليف دون علمي من الرئيس الثالث للجامعة .

كان فارق الزمن بين هذا اللقاء الأخير والقصير وانتقاله إلى رحاب ربه لا يزيد عن يومين, ولهذا كانت المفاجأة بالنسبة إلي كصاعقة حطّت أمامي. قد يكون صحيحاً أنني لا أعرف شيئاً عن تاريخ مهنة الرجل وعمله السابق وما حدث فيها, وقد يكون صحيحاً أيضاً أنني لا أرتاح على الإطلاق لمثل تلك المهنة الخفية رغم أهميتها لأمن البلاد وصيانة سيادته إن وُجّهت وظائفها ومهامها في القنوات السليمة. وكنا في فترات الماضي نخشى من أصحاب هذه المهنة ونتّقي الاحتكاك بهم ومنهم كثير مجهولون لا يعرف الواحد عنهم شيئاً, ولكن المعروفين منهم كنا نطلق عليهم مصطلحات معروفة ومتداولة فيما بيننا لاتّقاء أي سقطة كلام تحسب علينا معادية وتُكتب في تقاريرهم فنقول مثلاً "صهدود " أي كسر زجاج ونقول أيضاً "مسمار" فيعرف القوم المجتمعون أن القادم من أصحاب أمن الدولة, فيسود الصمت أو التحدّث في حديث عادي.

أما هذا الرجل فهو بسيط ومهذب واجتماعي وربما تقاعد عن عمله الأساس منذ فترة, وتعاقد مع جامعة حضرموت ضمن حراسة أمن الجامعة. كنت أسمح لنفسي بسؤاله معتمداً على بساطة الرجل وربما أكثر من مرّة وأمام آخرين ممن يتردّدون على مكتبي : أخ عبدالله أرجو أنك لم تؤذ أحداً أو تسبّبت في ظلم أحد أو "لحسه" بالمصطلح الشائع آنذاك ويجيب الرجل على الفور بتلقائية وبساطة متناهية: لا والله لم يبدرْ مني أي شيء من هذا القبيل أو من كل ذلك مما تسمعون.

أما في محافظة البيضاء التي خرجت عن دائرة هيمنة الدولة فقد أُعدم طبيب أسنان في ميدان عام دون محاكمة بطلقات رصاص كثيفة أعقبها وابلٌ من الرصاص المروّع في السماء من لدُنْ مجموعة مسلّحة وكأنّ الأمر معركة حامية مع عدوٍ كاسرٍ. صحيح كذلك إننا لا نعرف ما هي التهمة الموجهة للطبيب؟ ولكن مثل هذه القضايا لا بد أن تمر عبر الأطر القانونية للدولة, ولكن أي دولة نتحدّث عنها؟ لقد تشرذمت الدولة وتداخلت مآسيها وتشعبت مشاكلها.

ففي صنعاء تقوقعت الدولة في نهج خاص بجماعة أنصار الله التي لن تقبلَ توجهاتها وشعاراتها تحت أي مبررات القاعدة الشعبية في المناطق المحررة من الجمهورية اليمنية. كما إن الدولة في الجنوب لم تنعم بأي استقرار نظرا للتجاذبات المختلفة والمتنافرة للقوى السياسية فيها.

دولة تُدار من فنادق الرياض, وهي التي يُطلق عليها دولة الشرعية, تماحكها دولة أخرى مضادة باسم المجلس الانتقالي وتتحكّم في مفاصل الدولة السيادية في عدن ولحج والضالع وربما حضرموت بدرجة أقل.

لقد أسقطت الحرب الدائرة ليس مجاميع كبيرة من القتلى والجرحى وحسب ولكن أسقطت هيبة الدولة, وعدم مقدرتها على الالتزام بواجباتها الدستورية والأخلاقية والإنسانية.



المكلا في 22سبتمبر 2020م


*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter