|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  23  / 12 / 2015                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

شخصيات ومواقف عبر الأطلسي

د. سالم عوض رموضه
(موقع الناس)

انصرمت قرابة ثلاثة عقود على مغادرتي فرنسا عقب انتهائي من الدكتوراه عام 1987م من المعهد القومي للعلوم التطبيقية بتولوز. واصلت عملي في جامعة عدن ثم في جامعة حضرموت فجامعة الأندلس للعلوم والتقنية في صنعاء, وانتهى بي المطاف في جامعة حضرموت لفترة قصيرة, أحلت بعدها للتقاعد. وددت أن اتعرض بإيجاز لمواقف بعض الشخصيات التي تشرفت بمعرفتها هناك . 

أولها السيدة أو حسب التعبير الفرنسي مدام إزاخ, العاملة في هيئة الخدمات الطلابية ومسؤولة مكتب خدمات الطلاب الأجانب في مدينة تولوز. لم تتغيب هذه السيدة الجادة عن مكتبها في أوقات الدوام الرسمي, وإذا كان لديها أي طارئ وهو نادر الحدوث فإنها تترك إعلاناً واضحاً على باب مكتبها قبل أيام من تغيبها باسم الشخص المكلف بعملها ورقم مكتبه للذهاب إليه إذا احتاج المبعوث أي إجراء أو مساعدة.

الثاني هو السيد أو بالتعبير الفرنسي مسيو شارل هنري ديتريشي المشرف على رسالة الدكتوراه وهو شخصية استثنائية في تعامله معي واستعداده دون حدود في مقابلتي والرد على استفساراتي الكثيرة وفي أي وقت أشاء وبالذات في مرحلة صياغة وكتابة الأطروحة وهي باللغة الفرنسية التي تستلزم دراية وإتقان كان من الصعب على شخص مثلي الوصول إليها في فترة سنة واحدة لدراسة اللغة ما بين مدينة روان في شمال باريس ومدينة بيزنسن للتطبيق في شرق فرنسا.

الثالث والرابع هما مسيو كوبي ومسيو أتار فنيان في المختبر الذي كنت أجري فيه تجاربي العملية, وأقابلهما يومياً. حضورهما وانصرافهما بموجب الدوام الرسمي وجاهزان للعمل معي أو مع غيري من الباحثين سواء كانوا فرنسيين أو أجانب لا فرق, والأمر ينطبق على بقية الفنيين والموظفين والإداريين في المختبر.

الخامس والأخير هو الجراح الشاب حينها ميشيل كومي الذي أجرى لي عملية قرحة الاثني عشر في مستشفى تولوز العام يوم الأحد 7 يونيو 1987م وهو يوم إجازة لدى الأوربيين وقبيل دفاعي عن أطروحة الدكتوراه يوم 23يونيو 1987م , علماً بأنني غادرت فرنسا يوم 27 يوليو 1987م , بعد اطمئنان الدكتور كومي على العملية الجراحية. الكل متفان في عمله حتى في أيام الإجازات وهذا ما حصل معي إذ بعد الانتهاء من الدكتوراه وطباعتها شعرت بآلام حادة في المعدة, وكان الوقت إحدى ليالي رمضان الكريم في صيف 1987م حيث تغرب الشمس في حدود الساعة العاشرة. وفي صبيحة اليوم التالي وصادف أن يكون يوم أحد, كان الألم لا يحتمل واستدعي طبيب عام للسكن الطلابي لمعاينتي سرعان ما شخص الحالة بأن هناك قرحة منفجرة وطلب سيارة إسعاف نقلتني على عجل لمستشفى تولوز العام في ذلك الصباح الرمضاني المبارك وأدخلت غرفة العمليات مباشرة بعد إجراء الفحوصات الضرورية وكان آخر ما رأيت ساعة الحائط تشير إلى الثانية عشرة ظهراً قبل الاستسلام لكمامات التخدير. وما شعرت بعدها إلا بهمس رقيق في أذني " مسيو رموضه ! مسيو رموضه ! " وكان ذاك هو الطبيب ميشيل كومي جاء ليطمئن على العملية الجراحية في حدود الساعة الخامسة عصراً. وفتحت عيني لأرى بعض من زملاء المختبر في غرفة العناية المركزة ومكثت في المستشفى فترة 9 أيام محاطاً بعناية فائقة كانت من أجمل الأيام من ناحية الصفاء الذهني لأن غدائي كان عن طريق الوريد, وهنا تأكد لي مغزى الحديث النبوي الشريف " المعدة بيت الداء ".    

والبداية في رحلة الدراسة عبر الأطلسي أني كنت أحمل رسالة من الأستاذ الدكتور محمد سعيد العمودي عميد كلية الهندسة بجامعة عدن حين ابتعاثي والذي أصبح فيما بعد رئيساً لجامعتها إلى الأستاذ المشرف عليه أثناء دراسته في منبلييه الأستاذ باتريك جنستي بخصوص تسهيل التحاقي بأحد الجامعات الفرنسية, أرسلتها لعنوانه بالبريد أول ما وصلت فرنسا. وتواصل معي ذاك الأستاذ دون أن أقابله ووجهني لمدير مختبر الهندسة المدنية بالمعهد القومي للعلوم التطبيقية بتولوز الأستاذ جون كلود مازو. لم يمض علي في تولوز شهر أو شهران على الأكثر, وإذا برسالة تصلني من شقيقي والمغترب وقتها في الكويت يخبرني فيها بأن والدتي أثناء قيامها لصلاة الفجر سقطت ولم يزد بأية تفاصيل, الأمر الذي أقلقني للغاية وذهبت من فوري لمكتب السيدة إزاخ أشرح لها بأني لا يمكنني الاستمرار في الدراسة ووالدتي في حالة خطرة. وتأثرت مدام إزاخ للغاية وأخذت الموضوع بمنتهى الجدية وعلى الفور وجهتني لبلدية تولوز لعمل تأشيرة خروج وعودة بعد أن خاطبت بالتلفون المختص في البلدية ووجهتني في نفس الوقت برسالة للخطوط الجوية الفرنسية لحجز تذكرة سفر وبأسرع خط لليمن. تأشيرة الخروج والعودة لم تستغرق أكثر من يوم, علما بأنها في الظروف العادية لا يقل استخراجها عن أسبوعين. أما الحجز فقد تم حجز تذكرة سفر بظرف استثنائي ولكن إلى صنعاء, وشرحت لمكتب الطيران أن وجهتي عدن وليست صنعاء وأن اليمن مازالت يمنين في ذلك الوقت من عام 1984م, وأعيد الحجز مرة ثانية إلى عدن عن طريق الكويت. ووصلت بلدتي الديس الشرقية ووجدت والدتي بصحة ممتازة وما ذاك الخبر الذي استنفرت به الفرنسيين في تولوز إلا مبالغاً فيه. وبعد قضاء أسبوع أو أسبوعين ما بين الديس وعدن عدت لتولوز لمواصلة دراستي وكأن شيئاً لم يحدث. وكانت مدام إزاخ تتوقع مني خبراً غير سار, والغريب أنها لم تسألني خوفا من إيلامي ولم أتبادل معها أي حديث حول هذا الموضوع بعد ذلك البتة حتى غادرت فرنسا. وقد عمرت والدتي بعد تلك الحادثة قرابة ثمان سنوات, وانتقلت لرحاب الله في 19 مايو 1992م.

كان أستاذي ينبهني لموعد صلاة الجمعة إذا رآني منهمكاً في عملي مؤشراً في ساعة يده بأن الوقت قد حان للانصراف لأداء الفريضة, مع إن يوم الجمعة يوم عمل رسمي لديهم. سافرت مع أستاذي أو نيابة عنه للمشاركة بأبحاث لعدة مؤتمرات علمية عالمية على حساب المختبر منها مؤتمر في بوسطن ومؤتمر في لوزان وزيارة لمختبر في مدريد في أسبانيا. كان يسلم لنا مفتاح المختبر الرئيس الذي بواسطته تفتح البوابة الرئيسة وأي باب آخر داخله, إذا أراد الباحث العمل في يوم السبت أو الأحد وهما يوما إجازة أو في مساء الأيام العادية. و صدف أن كان رئيس المختبر في أحد الفترات الأستاذ لوران وهو من الجبهة الوطنية العنصرية التي تتضايق من وجود الأجانب في فرنسا وتود لو تطردهم جميعاً وهو في نفس الوقت من زعماء الجبهة البارزين في تولوز. وكم مرة أتى هذا الأستاذ في صبيحة يوم أحد ومعه كلب ضخم يطلق عليه "الكلب الذئب" ويجدني في المختبر وحيداً فلا تبدر منه أي ألفاظ مسيئة غير تحية الصباح الفرنسية المشهورة " بنجور" بالرغم من همهمة كلبه المخيف المستعد لأي إشارة منه للانقضاض. وبدأت أتبين من ساعتها لماذا أولئك القوم تقدموا؟ ولماذا نحن تأخرنا؟

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter