|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  22  / 7  / 2022                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



شبدوت

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

يبدو إن هذا الاسم الجميل الذي وُسم به عنوان المقال يشي بأنه ينتمي لمنطقة مجاورة لأطراف حضرموت الشرقية وهي منطقة المهرة وظفار, إذ أن له نظائر عدّة هناك مثل سيحوت وضبوط وصرفيت ورسوت ومرعيت وترفوت وبرشيت وضحوت ويعشوت وخبصوت ودمقوت وخرفوت وعلفيت وكثير غيرها.

وقد سبق أن طلب مني شباب منطقة شبدوت وما حواليها أن أكتب لهم موضوعا لنشره في نشرتهم الثقافية المسمّى شبدوت. وشبدوت بالذات يُطلق على "المعيان" أي المنطقة الزراعية التي تقع في وادي بين قرية يضغط وقرية هبورك وهي قُرى ومناطق شبه بدوية تقع شرق المدينة التي أنتمي إليها وهي مدينة الديس الشرقية وتبعد عنها بمسافة لا تتعدّى الخمسة عشر كيلومتر, علماً بأن مدينة الديس الشرقية نفسها تبعد حوالي مائة كيلومتر شرق مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت.

كانت تُقام في ذلك المعيان زيارات موسمية للنساء من مدينة الديس الشرقية, وللرجال كذلك وإن كان بحضور وشيوع أقل. ولهذه القرى وحاضرتها حلفون مكانة عاطفية خاصة في نفسي مستقرّة منذ أكثر من خمسة عقود, إذ سكنت فيها والدتي فترة من الزمن غاضبة من ظروف خاصة بذلك الزمن وتقلباته. كنت أزورها كلما عدت من أماكن دراستي في حنتوب الثانوية بالسودان(1966- 1970) أوالجامعية في طرابلس بليبيا( 1970- 1975).

لم تكن هناك وسائل نقل منتظمة لحلفون ولم يكن خط الاسفلت الذي يتلوى في تلك الهضاب والوديان بوضعيته المقبولة هذه الأيام, غير أني كنت أسعد بتلك الزيارات القصيرة, ففيها تعرفتُ عن كثب على طبائع الأهالي الطيبة والعفوية الصافية من متعلقات الدنيا وزخرفها الخادع. كان مكان إقامة الوالدة عليها ألف رحمة من الله سبحانه وتعالى, بما تحفظه من أناشيد دينية ونزر بسيط جدا من آيات كتاب الله الحكيم محل جذب لجاراتها من النساء ليتعلمن منها ما تحفظه في ذاكرتها من تلك المأثورات والآيات. بل امتدّ الأمر أن يتعلّمن منها كيفية عمل القُفف والزنابيل الصغيرة وسلقات الجلوس ومشغولات محلية كثيرة من الخوص وهي ماهرة جدا في هذه التقنية الشعبية والمحلية. ولمّا كان مقر إقامتها في حلفون هو وضع مؤقت, فقد كنا في مرّات عديدة نحاول إقناعها بالرجوع لبيتها في الديس الشرقية وهو بيت كبير وَسِعَ في الوقت الحالي سكناً لأربع عائلات مستقلّة عن بعضها هي حصيلة لحقٍ لهم في الميراث الشرعي للبيت الكبير بموجب وصية الوالد عليه رحمة الله. ولعلي أشهد تماما بأنها كانت المشرفة الأساسية في بناء هذا البيت لا سيما أن الوالد كان كثير الأسفار بحكم عمله كناخوذة أي قبطان في السفن الخشبية الكبيرة التي تجوب سواحل بحر العرب وسواحل الخليج العربي والهند وكذا سواحل شرق أفريقيا. فقد شهدت لها في طفولتي المبكرّة كيف كانت تساعد في أعمال البناء في فترات المساء كأن تُنقل بمفردها الطوب الطيني الذي يجفّفه عمّال البناء خارج البيت إلى داخل البيت لعمل بعض الإضافات البنائية فيه. وكيف كانت تشق بمنشار كبير ليس له وجود هذه الأيام محمول على سقالات يتناوله رجلان أثنان شديدان من الطرفين, ألواح الأخشاب الخاصة بالأبواب والشبابيك التي يتركها النجّار ومساعده غير مكتملة آخر النهار ليجدها في اليوم التالي بكثير من الدهشة والتعجّب شبه مكتملة, ناهيكم عن الأعمال الروتينية المنزلية الأخرى التي كان يقمن بها جدّات وأمّهات ذاك الزمان الجميل.

وإن كنت أنسى فإني لن أنسى تلك الأمسية التي قرّرتُ فيها أن أذهب لرؤية الوالدة ضمن تلك الزيارات المتكرّرة, فقد دخل وقت العشاء وما زلتُ في انتظار السيارة التي سوف تنقلّني إلى حلفون في المحطة المعتادة لانطلاقها في السوق القديم للديس الشرقية. ولم تصل بعد طول انتظار إلا سيّارة بضائع ثقيلة في طريقها إلى منطقة شرق, فقرّرت في جرأة وحماسة أن أذهب معهم حتى تقاطع منطقة حلفون ولم يكن الطريق مسفلتا بالطريقة الحالية, بل طريقا ترابيا وحجريا يمر مرورا من بعيد عن قرية يضغط وحلفون المتجاورتين. وقد أقنعني سائق الشاحنة بأنه سوف ينزلني في مكان مناسب وقريب من حلفون بالإمكان الذهاب إليها سيرا على الأقدام وفي زمن يسير. ولكن ذاك للأسف لم يحدث البتّة فقد نزلتُ في بقعة محاطة ببعض أشجار النخيل وبعض أشجار السمر والعشر البرية والأدهى من كل ذلك أن القمر المنير لم يشرّف في تلك الليلة الدهماء. سرْتُ بضع خطوات ولكني لم أدر في أي اتّجاه يجب أن أسير وأين هي حلفون؟

اختلطت علي الاتجاهات جميعها ولم يكن هناك من آدمي استأنس به أو على الأقل يرشدني لوجهتي المقصودة. قرّرتُ أن أظلّ جالساً في مكاني حتى تتبيّن لي خطوط ضوء الفجر ولكن مثل ذلك الخيار يُعد ضربا من المستحيل إذ لم استطع الجلوس أكثر من نصف ساعة في حالة رعب شديد. نهضتُ من مكاني الموحش عندما تبيّن لي شعاع ضوء خافت من بعيد وقلت في قرارة نفسي ذاك ربما يكون تجمّعاً لناسٍ في سمر وما أدراني ربما تكون تلك هي حلفون, فالكهرباء لم تدخل بعد بشكل منتظم في تلك المناطق. سعيتُ نحو مصدر الشعاع الذي بانت حواليه أضواء أخرى ووصلت بعد توجّس وترقب تخوم ومداخل حلفون. ولمّا طرقتُ باب البيت الذي تسكنه الوالدة وأظنه بيت آل الخَوَصْ, كانت مفاجئة لها إذ لم يخطر ببالها على الإطلاق أني سوف أقدم على تلك المغامرة غير المحسوبة لزيارتها في تلك الساعة المتأخرة من هزع الليل, الأمر الذي جعلها في صبيحة اليوم التالي تحزم ما لديها من متاع بسيط وترشدني لبيت الحصين لاستئجار سيارة اللاندروفر اليتيمة في حلفون للعودة لبيتها في الديس الشرقية برغبتها وخوفاً من تكراري لمثل تلك المغامرة الخطيرة التي أقدمتُ عليها. وغادرنا في الصباح الباكر حلفون أمام دهشة الأهالي من هذا التغيّر المفاجئ في حياة الوالدة التي شاركتهم عيشهم البسيط وتعلّمت منهم فضائل الصبر والتجلّد والاحتساب وتعلّموا منها بالمقابل حفظ الفاتحة والمعوذات وبعض التراتيل الدينية والأدعية ونزر بسيط من تقنية عمل المشغولات من سعف النخيل والخوص الأبيض المستورد من عِرْقَة وبَرِّ الصومال كما أذكر. أما بالنسبة لي فالوالدة رحمة الله عليها فوق كل ذلك كانت هي نموذج للمرأة الصابرة والمتجلّدة والمكافحة وهي مذ غادرت دنيانا الفانية في 19مايو 1992م لرحاب ربها, الومضة التي ما بَهُتت في حياتي ولن تبهُتَ أبداً.


المكلا في 20يوليو 2022م
 


* نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter