|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  22  / 11  / 2023                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



مذكرات تربوية من واقع التعليم الحديث بحضرموت (1939- 2012)

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

هذا عنوان كتاب يودُّ إصداره التربوي القدير أحمد سعيد باحبارة المولود بمدينة غيل باوزير عام 1939م, والذي طلب منّي أن أكتب له مقدّمة. الكتاب زاخرٌ بمجموعة قيّمة من الوثائق التربوية تضمّنت جوانب رائعة من ذكريات المراحل الدراسية التي مرَّ بها الكاتب وكذا للمحات فارقة من المواقف التربوية التي عايشها في مراحل حياته العملية المختلفة كمعلّم أولاً ثم إدارياً مخضرماً, إذ عمل فترة قصيرة من خدمته إبّان السلطنة القعيطية في حضرموت في إدارة المعارف والتي سُمّيَت فيما بعد الإدارة العامة للتربية والتعليم في سلطة ما بعد الاستقلال عن بريطانيا عام 1967م والتي عمل فيها الفترة الطويلة من خدمته الحكومية حتى تقاعده في عام 1995م, أي بعد مضي حوالي خمس سنوات من قيام دولة الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م. ولم تقف جهود الشيخ أحمد سعيد باحبارة ونشاطه التربوي عند حاجز التقاعد من الخدمة العامة والوظيفة الحكومية بل تطوّع وبادر بأن جعل في بيته ديوانية ثقافية ومنتدى تربوي أطلق عليه مجلس الروّاد يجتمع فيه أقرانه من رجال التربية والتعليم المتقاعدين من مدينة المكلا والمهتمّين بقضايا التربية بشكل دوري كل أول يوم ثلاثاء من كل شهر, ولقد كنتُ حريصاً على حضور بعض هذه الجلسات لما لها من أهمية في استعادة ملفّات الماضي التربوي الجميل والاستفادة من تجارب قامات تربوية كبيرة وعلى رأسهم الشيخ أحمد سعيد باحبارة. والكتاب في جوهره يحتوي بشكل موجز ولكن بمسحة ممتعة وجاذبة على مواضيع شتّى خاصة بالتعليم الحديث الذي عاصره الشيخ باحبارة خلال فترة دراسته المثمرة وتفاعله الإيجابي والنشط مع من عاصرهم من زملاء دَرسٍ ومعلمين كثيرين لعل منهم كوكبة متميّزة من المعلّمين السودانيين الذين يفدون إلى حضرموت في فترة الحكم السلاطيني بناء على اتفاقيات مبرمة مع الجانب الحكومي السوداني, وكان مهندس هذه العلاقة التعليمية والتربوية المنتظمة المرحوم الشيخ القدّال سعيد القدّال باشا رجل التعليم في حضرموت منذ عام 1949م والذي صار ناظراً للمعارف في السلطنة القعيطية في المكلا فيما بعد. لقد كانت هناك وشائج عدّة تربط أرض السودان باليمن عامة وبحضرموت على وجه الخصوص عبر الهجرات البحرية وعوامل التجارة والتمازج الاجتماعي والاقتصادي وأضاف لها البعد التعليمي آفاقاً رحبة ومستمرّة عبر جامعات السودان ومؤسساتها التعليمية ومعاهدها التربوية ومن أولها تأثيراً معهد التربية ببخط الرضا في مدينة الدويم ثم بعد ذلك المدارس الثانوية النموذجية في كل من حنتوب وبورتسودان وخور طقّت ووادي سيّدنا, إضافة بطبيعة الحال إلى جامعات السودان العريقة وبالتحديد جامعة الخرطوم وجامعة أم درمان الإسلامية. وقد تخرّج من هذه المعاهد والثانويات والجامعات ثُلّة كبيرة جدا من رجالات حضرموت في شتّى المجالات والمعارف المتنوّعة كالقضاء والقانون والسياسة والاقتصاد والتربية والتعليم والطب والهندسة والزراعة وغيرها من المجالات المهنية الأخرى.

التحق الشيخ الجليل أحمد سعيد باحبارة بعد تخرّجه من معهد المعلّمين بمدينة غيل باوزير بسلك التدريس, ومن محاسن الصدف أن تكون أول نقلة له في مجال سلك التدريس في مدرسة مدينة الديس الشرقية وهي المدرسة الابتدائية الوحيدة بالديس الشرقية آنذاك وكان لي مع بقية أفراد دفعتي شرف أن نكون ضمن تلاميذه في المستوى الأول من العام المدرسي 1959/1960م. وقد انتقل معه في نفس العام كمدير للمدرسة الأستاذ الفاضل المرحوم نصر فرج مرسال التربوي الحازم وذو الكاريزما الآسرة وهو أيضا من مدينة المكلا وكان معهم في نفس الفترة كوكبة متميّزة من المعلّمين من مدينة المكلا, لعل منهم الأساتذة الأفاضل محمد سعيد بن جوهر وأحمد مديحج بالإضافة لمعلمين من غيل باوزير منهم المعلّم محمد سعيد بارفعة ومحمد مبارك حمران وهؤلاء جميعاً في ذمّة الله ومن الديس الشرقية نفسها كان معهم معلمون نموذجيون وأفاضل منهم سالم عبود العفاري وحاج سعيد محروس ومحسن حسين الحوثري, رحم الله الأموات منهم وأطال الله أعمار من بقي منهم على قيد الحياة. ومما تجدر الإشارة إليه أن عملية الوصول لمدينة الديس الشرقية في تلك الحقبة من الزمن كانت صعبة ومرهقة للغاية إذ لم تكن الطرق معبّدة ولها مسالك أخرى مختلفة غير تلك الطرق الاسفلتية التي استحدثت في العصر الحديث, ولكن حرارة الاستقبال التي ظفر بها المربّي الكبير الراحل نصر فرج مرسال مدير المدرسة ورفيقه الشيخ الفاضل أحمد سعيد باحبارة من قِبل أعيان مدينة الديس الشرقية ووجهائها أنستهم تماماً عناء السفر ومشقة الرحلة وكان من ضمن المستقبلين لهم والذين يتذكّرهم الشيخ باحبارة في مخيلته رغم تقادم السنين السادة الأفاضل سعيد عبدالله بحّاح وعمر عبيد جبلي ومحمد عبد الرحمن المقدي وسعيد عبد الرب الحوثري عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه, ولا غرابة في هذا الأمر فمجتمع الديس الشرقية منفتح على التيارات التربوية الحديثة ومشجع للتعليم الحديث. وقد بذل الشيخ باحباره مع الكادر الإداري والتعليمي بالمدرسة جهوداً جبّارة ومحمودة للارتقاء بمستوى التعليم في المدرسة وإدخال الأنشطة الرياضية, الأمر الذي جعل مدرسة الديس الشرقية في ذلك العام الدراسي 1959/1960 تحرز مرتبة متقدّمة في مصاف المدارس الابتدائية في ساحل حضرموت إن لم تكن هي الأولى بينها.

ولا ضير والحال كذلك أن ترتسم دائماً أمامنا صور ناصعة لذلك الزمن الماضي القريب لمدينة الديس الشرقية والذي يعكس منظومة قيم جميلة وعفوية لسلوك الناس وعاداتهم ونهج حياتهم ومعيشتهم البسيط في ذلك الزمن الجميل الأمر الذي شكّل تجانسا حضرياً ومدنياً اتّسم بقيم التكافل الاجتماعي ضمن منظومة قيم حدّد إطارها العام التشابك المميّز في الوشائج الأسرية والالتزام بثقافة التربية السائد وبالنهج الديني الوسطي والمتّزن. ولهذا أتى ذاك الجيل الرائد من التربويين والمعلمين ليس لمدينة الديس الشرقية وحسب ولكن لبقية مدن حضرموت المترامية الأطراف بساحلها وواديها. وقد تعلّم على أيديهم المباركة والخيّرة ونهل من معين علمهم القويم والمتّزن أجيال سابقة ومتلاحقة. وحريٌّ بنا القول أنه رغم قساوة العيش وشظفه وبساطة الحياة وقتها, إلا إن ذلك الجيل من الرواد التربويين وتلاميذهم كانوا ينظرون إلى التربية ومناهجها بثقافة صافية ومغايرة لما هو حاصل في ثقافة جيل اليوم. تربّى الأبناء على حب العمل وعدم التواكل والاتكالية بل بالتفكير في النجاح وفق قواعد التنافس الشريف, ولهذا برز منهم الكثير لأن منظومة القيم الاجتماعية وقتذاك كانت قيم التفوق والكد والجد والجهد والاتقان والوفاء بالوعد والصدق واحترام الوقت. ولكن هذه القيم للأسف قد تفوّقت عليها في ثقافة اليوم وتربيتها وقطعاً دون تعميم مطلق قيم المظهرية والاعتماد على الحظ والفهلوة بمختلف أنماطها. للمعلّم على سبيل المثال حرمته ووقاره وتوقيره منذ مراحل التعليم الابتدائية رغم محدودية المدارس في ذلك الوقت الجميل. كان من المستحيل أن يمر المعلّم بمكان ما ويصادف أن يكون بذلك المكان بعض التلاميذ دون أن يقفوا له احتراماً وتوقيراً, بل وصل الأمر حدّاً أنه إذا مرَّ المعلّم بزقاقٍ من أزقّة البلدة فعلى التلميذ أن يمرَّ بزقاقٍ آخر مخافة أن تقع عينا المعلّم عليه. وكان من المستحيل كذلك أن يخرج التلميذ من بيته قبل الساعة الرابعة عصراً ناهيكم أن يسهر لأوقاتٍ متأخرة من الليل كما هو حاصل اليوم, فطوبى لمعلمي ذاك الزمان الجميل.
 


المكلا في 22نوفمبر 2023م
 


* نائب رئيس جامعة حضرموت السابق
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter