|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  21 / 11 / 2016                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



شاهد عيان

د. سالم رموضه
(موقع الناس)

اطلعت على كتاب للكاتب الشهير أنيس منصور بعنوان "عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا". ركز فيه الكاتب بشكل خاص على يوم 5 يونيو من عام 1967م وهو اليوم الحزين الذي شنت فيه دولة الكيان الصهيوني عدواناً كاسحاً وخاطفاً على ثلاث دول عربية مصر وسورية والأردن واحتلت أراضي شاسعة من تلك الدول منها سيناء وهضبة الجولان وما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وهي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة, رغم حدوث بعض البطولات هنا وهناك والتي ضاع أثرها وسط أجواء ما سمي بتعبير النكسة لدى الجانب العربي أو حرب الأيام الستة كما يحلو للعدو أن يسميها . تمحور الكتاب حول تلك الهزيمة النكراء وحمّل الكاتب الرئيس عبد الناصر وحده أسبابها ونتائجها وتبعاتها, وجعل منه نيرون العصر الذي لا يحتمل أي رأي مخالف لرأيه. وعلى كل فالجميع متفق مع الكاتب الكبير أنه لا يجوز أن يعفي أحد من المسؤولية التاريخية لما حدث لأنه كان شرخاً عميقاً في الكرامة العربية وجرحاً غائراً لم يبرأ بعد في ضمير الإنسان العربي حتى اليوم. غير أن الكاتب بالغ كثيراً في جلد الذات ووظف قدراته الصحفية والبلاغية في النهش في شخصية رجل أخطأ وأصاب وهو الآن في ذمة الله وفي حكم التاريخ. ومن زخّات ذلك الهجوم القاسي أنه استعاد للأذهان حتى قصائد الشعر المريرة وبعضها صادق ومعبر من أمثال "هوامش على دفتر النكسة" للشاعر الراحل نزار قباني التي كتبها عقب النكسة مباشرة وقصيدة "هل عاد ذو الوجه الكئيب؟" للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور الذي قالها قطعاً حول عبد الناصر وإن كانت مجافاة للحقيقة وغير موفقة في مضمونها ووصفها. كما أبرز الكاتب في شكل لمز وغمز مسرحية "السلطان الحائر" للكاتب الكبير توفيق الحكيم والتي كتبت في خريف 1959م. وبالرغم أن فحوى تلك المسرحية يتلخص في الصراع الدموي التاريخي بين القوة والقانون, إلا أن الكاتب الكبير أنيس منصور كما يتضح من مقالته في الكتاب قد وظف ذكائه وتهكمه للسخرية من الحاكم أي الرئيس عبد الناصر وكانت النتيجة آنذاك فصله من عمله. وبناء على ذلك الفصل استنفر في دفّة كتابه بأثر رجعي كل قدراته المميزة للنيل من شخص وحكم وقرارات عبد الناصر دون استثناء ولكن ذلك لم يتم له إلا بعد وفاته بسنين وصاغها بأسلوب أدبي ساخر بحق أو بدون حق لتشويه حقبة من التاريخ العربي المعاصر. بل لقد اختزل مسيرة الرجل الذي قاد أول ثورة عربية تحررية في العصر الحديث بأنه أراد أن يكون الفرعون رمسيس بالنسبة للمصريين والقائد صلاح الدين بالنسبة للعرب, وفي جملة واحدة عبّر عن سيرته كلها "بأنه ثار في 1948 وانتصر في 1952 وجرح في 1956 وذبح في 1961 ومات في 1967 ودفن في 1970". واللافت للنظر أن كل هذه التواريخ محطات مهمة كُتبت فيها مئات المؤلفات المنصفة والشهادات التاريخية العادلة ولكن الكاتب الكبير أنيس منصور لم يعرها انتباهاً واعتباراً.

والكاتب الكبير أنيس منصور صاحب رصيد واسع في مجال الكتابات الأدبية من تراجم ذاتية وقصص ومسرحيات مترجمة ونقد أدبي وأدب رحلات ومسرحيات كوميدية وكتب مقالات وترجمات قصصية, كما قد كتب في مجال الدراسات السياسية والدراسات النفسية والدراسات العلمية والمسلسلات التليفزيونية والترجمات الفلسفية, زادت جميعها عن 174 مؤلفاً.

وإن كنت اليوم في هذه العجالة سأكتب بعض الخواطر حول ذلك الكتاب فهو من باب أن الشيء بالشيء يذكر لأني عايشت تلك الفترة القاتمة وكنت في وسط الحدث في قاهرة المعز أبّان ذلك العدوان السافر. فقد كان بالإمكان أن يعيش المرء شهراً بكامله في قاهرة عبدالناصر بالمنحة الشهرية المخصصة من السلطنة القعيطية التي ابتعثنا من قبلها للدراسة في السودان والتي كانت تصرف مقدماً من وكيل السلطنة في أم درمان الوالد المرحوم أحمد صالح باعبود طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته.

لن أصل بطبيعة الحال إلى مستوى يمكنني فيه أن أتعرض لنتاج أدبي وسياسي لقامة أدبية شامخة مثل أنيس منصور وذاك أبعد عن تصوري, ولكنه عندما أشار ليوم النكسة في كتابه سالف الذكر قال إن عبدالناصر قرر أن يتنحى ظهراً وأن يعود ليلاً مشيراً إلى مظاهرات العدول عن التنحي التي عمت القاهرة وربما مصر كلها وذكر في الكتاب بالنص "ولكن بذكاء نادر أجابهم إلى طلبهم ودبّر مظاهرات العدول عن التنحي". لقد صدف أن كنت مع أفراد دفعتي المبعوثين لمدرسة حنتوب الثانوية في السودان أبان السلطنة القعيطية في زيارة لمصر خلال الفترة 20 مايو- 20 يونيو1967م وكنا على مشارف السنة الثانية في التعليم الثانوي.

وفي يوم 9 يونيو عندما أذيع أن الرئيس عبدالناصر سوف يلقي خطاباً مهماً للأمة في مساء ذلك اليوم, ذهبنا لميدان الدقي بالجيزة وكان قريبا من مكان إقامتنا, وكان بأحد أركان ذلك الميدان مقهى يسمى زهرة الميدان والذي ظل محتفظاً باسمه حتى اليوم بل ونفس طابعه وخدماته وكان يوجد به تلفزيون أبيض أسود في ذلك الزمان لنستمع للخطاب والذي أذيع على الهواء مباشرة في تمام الساعة السابعة مساء كما أذكر. وما أن أنهى عبد الناصر خطابه وكانت سماء القاهرة وشوارعها وأحيائها كلها مظلمة تماماً تحسباً لأي غارة جديدة بل كنا نسمع أصوات المدافع المضادة للطائرات من أماكن قريبة للقاهرة وإذا بأصوات الناس وهتافاتهم ومظاهراتهم رفضاً لقرار التنحي تملأ الشوارع والميادين في ذلك المساء المظلم ولما يمضي بعد على الخطاب أكثر من نصف ساعة. فأي ترتيب وأي ذكاء يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا كان الأمر خارق للعادات وفوق فهم الناس؟ وما أن أصبح اليوم التالي إلا وكانت القاهرة في تلك الأجواء الصيفية الخانقة تضيق بناسها وبالقادمين إليها من الأرياف ومن الضواحي والأماكن القريبة بالحافلات والقطارات ومنهم من أتى راجلاً طوال الليل متورم الأقدام مشحون بمطالب الصمود والتحدي وليس بمشاعر اليأس والانكسار. وصدف أن كنت شاهد عيان على كل ذلك وليس عبر قراءة مقالة في كتاب لأنيس منصور.
 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter