|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  20  / 4  / 2022                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



الدين والسياسة في أمريكا
صعود المسيحيين الإنجيليين وأثرهم

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

هذا عنوان كتاب يناقش موضوع صعود اليمين الديني المحافظ في الولايات المتحدة الأمريكية مستعرضا الخلفية التاريخية للتديّن البروتستانتي وبروز الأصولية المسيحية بعد الحرب العالمية الثانية وكيفية تنظيم الأصوليين المسيحيين أنفسهم ليشكلوا قوة مؤثرة في صناعة السياسة الأمريكية. ألّفه الدكتور عارف زكاء الله خبير اقتصادي باكستاني وترجمه للعربية الأستاذ أمل عيتاني.

بدأ المؤلف كتابه ببديهية تقول أنه من المتعارف عليه في الليبراليات الديمقراطية الغربية أن الحظوظ السياسية المستقبلية للحزب الذي يمسك بزمام السلطة ترتبط ارتباطاً مباشراً بالوضع الاقتصادي, فإذا شهد الاقتصاد ثباتاً في معدلات النمو واستقراراً في سعر النقد وتوفر فرص العمل للجميع وعاش المواطن في حالة من السلام العام والازدهار خلال فترة حكم الحزب, فإنه من المُرجّح أن يصوت الناس لصالح بقائه في السلطة. ومن الناحية التاريخية فإن هذه العلاقة السببية بين الاقتصاد والسياسة تنطبق على الولايات المتحدة, ولكن نتائج الانتخابات الرئاسية لعامي 2000 و2004 حملت عكس ما هو متعارف عليه, إذ شهد اقتصاد الولايات المتحدة خلال ثمان سنوات من إدارة كلينتون– جور (1992- 2000) معدلات نمو مرتفعة وغياباً للبطالة واستقراراً في سعر النقد, في وقت أصبحت فيه الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم ومع ذلك لم يستطع أل جور أن يشق طريقه إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية عام 2000, إذ كان الفوز حليف جورج بوش الابن.

طوال الحملة الانتخابية, حاول جور أن يجعل الاقتصاد قضية أساسية على عكس بوش الذي استطاع بذكاء أن يحول الأنظار باتجاه الخلاف القائم حول أخلاقيات الحكم. كما إن الناخبين الذين اختاروا أن يتجاهلوا سجل الأداء الممتاز للاقتصاد الأمريكي يتركزون بشكل أساسي في المناطق الجنوبية من الولايات المتحدة التي تعرف (بحزام الكتاب المقدس) بسبب كونها مركز الأصولية المسيحية وتوصّل المؤلف إلى نتيجة مفادها أن القيم والاتجاهات الأخلاقية ذات الأسس الدينية وليس الأداء الاقتصادي هي ما دفع حزام الكتاب المقدس إلى التصويت لصالح بوش. وتكرر السيناريو في الانتخابات الرئاسية عام 2004, حيث لم يكترث الناخب الأمريكي لأمر الاقتصاد بل صوَت على أساس أجندة الأصولية المسيحية التي يناصرها بوش. فلو أن الاقتصاد كان المعيار لمُنيَ بوش بالهزيمة بكل تأكيد, وهذه الحقيقة يؤكدها التدهور الذي شهده الاقتصاد الأمريكي خلال ولاية بوش الأولى (2000- 2004) إذ ارتفع معدل البطالة بعد توليه مقاليد الرئاسة عام 2000 إلى 4% ليصل 5,5% عام 2004. كما اتسعت رقعة الفقر بشكل واسع أيضا خلال ولايته الأولى ولكن مع ذلك فاز جورج دبليو بوش بولاية ثانية بأغلبية مقنعة مقارنة بالنتيجة المتزعزعة التي حققها في انتخابات عام 2000, وتشكل إعادة انتخاب الشعب الأمريكي لبوش لولاية ثانية بناء على معتقداتهم الأصولية المسيحية رغم الأوضاع الاقتصادية المتردية ظاهرة مهمة. ويؤكد المؤلف بأن الولايات المتحدة هي ليبرالية ديموقراطية ذات توازنات دستورية ثابتة, ولكن ليس لأحد أن ينكر بأنه في الليبراليات الديموقراطية تخضع إرادة القادة في نهاية الأمر لإملاءات الناخبين واتجاهات الرأي العام. وبالتالي فإذا كانت الأصولية المسيحية هي القوة المسيطرة على المجتمع والسياسة في أمريكا عشية القرن الحادي والعشرين, فمن الجدير بمواطني العالم أن يفهموا ويحللوا دورها في الإدارة الأمريكية وفي البنية السلطوية للبلد.

كما تناول الكاتب باختصار للمسيحية في أمريكا وخلفيتها التاريخية وأوضح أنه بسبب التدفق الهائل للبروتستانت على أمريكا تميز أول مجتمع أمريكي أبيض حديث بأنه أغلبية بروتستانتية ساحقة وسيطرة البروتستانتية المحافظة. ومع انتشار المشاكل الاجتماعية وظهور النزعة العقلية وسيطرة منهجية التفكير العلمي التي أدَت إلى ظهور أفكار جديدة مثل الداروينية, واجهت البروتستانتية التي قدَمت شروحها للأمور في إطار تقليدي تحديات خطيرة, ونظرا لمكانة رجال الدين البروتستانت في المجتمع فقد كانوا المجموعة الأولى التي واجهت هذه التحديات الفكرية. وبما أن العديد من المشاكل كان جديدا, فإن التقاليد لم توفر مواقف محددة منها, ولذلك طوّر رجال الدين استجابتهم لها بشكل تدريجي في إطار ما أصبح يعرف فيما بعد ب( المسيحية الجديدة) أو ( علم اللاهوت الجديد) وقد اعتمد علم اللاهوت الجديد بشكل كبير على حركتين مرتبطتين ببعضهما هما الإنجيلية الاجتماعية والمسيحية التعاونية. حمل أتباع الإنجيلية الاجتماعية لواء الإصلاح الاجتماعي الذي وضعت مسوغاته بناء على ما ورد في الإنجيل, وكان ينظر إلى التدفق المتزايد للمهاجرين غير البروتستانت على أنه تهديد للبروتستانت وبناء على ذلك تأسست حركة (المسيحية التعاونية) لمواجهة هذا التهديد, وكانت هذه الحركة تهدف إلى توحيد الكنائس البروتستانتية على نطاق واسع. ولأن البروتستانتية المحافظة قابلت الأفكار العلمية والفلسفية الجديدة مثل الداروينية وغيرها بالريبة والرفض, فقد حاولت الحركة الدينية الجديدة أن تؤلف بين الدين والعلم, مما خلق تخوفا من خطر تخلي رجال الدين عن الأفكار الدينية التي تعود جذورها إلى الإيمان بالخوارق الطبيعية أو بالفوق طبيعية والتي لم يكن التكيف معها في إطار العقلانية والاكتشافات العلمية ممكناً.

من ناحية أخرى قادت المقاربة العقلانية للدين إلى فهم جديد للعديد من المعتقدات الانجيلية ناصرته مدرسة فكرية جديدة دُعي أتباعها ب(الربوبيين). وكان الربوبيون ينظرون إلى المسيح على أنه معلَم أخلاقي وليس على أنه ابن الله. وكانوا يرون أن الأخلاق وليس الإيمان هي جوهر الدين, فكانوا يقولون إن الناس العقلانيين يعبدون الله على أكمل وجه حين يعاملون إخوانهم في الإنسانية بالعدل. وبالإضافة إلى إنكارهم كون المسيح ابن الله, كانوا يطالبون بالمعاملة العادلة لإخوانهم في البشرية, حيث كانوا يرون أن الناس إذا ما شرعت في تطبيق العدالة على اعتبارها أكمل وجه من وجوه العبادة فإنهم لن يكونوا قادرين بعد ذلك على مصادرة الأراضي الخصبة التي امتلكها وحرثها السكان الأصليون من الهنود الأمريكيين لقرون عديدة سبقت وصول الأوروبيين إلى العالم الجديد في القرن الخامس عشر. ولهذا رأى البروتستانت في المسيحية الجديدة تهديدا لهم لأنها نجحت في تطوير عقيدة بديلة أكثر قبولا وقابلية للاستمرار في إطار إنجيلي مبني على العقل وقادر على إيجاد حل للمشاكل من خلال الإصلاح ولكن الإصلاح كان تهديدا للتقاليد لأنه سيؤدي إلى قلب الوضع القائم رأسا على عقب.

ثم تحدث المؤلف حول انقسام البروتستانتية الأمريكية وولادة الأصولية, ويعود الفضل في بقائها كفلسفة إلى الأصوليين المسيحيين البروتستانت المتشددين. ومن أهم الأصول المتفق عليها عموما:
1- تنزيه النصوص عن الخطأ
2- ألوهية المسيح
3- ولادة المسيح من البتول مريم
4- الكفارة: افتداء المسيح للجنس البشري من خلال الموت صلباً تكفيراً عن خطايا البشر وآثامهم
5- القيامة: الاعتقاد بقيام المسيح من الموت, فالاعتقاد بأن المسيح قد مات ودُفن ثم قام مرّة أخرى إلى الحياة جزء أساس من الإيمان المسيحي
6- العودة الوشيكة للمسيح أو المجيء الثاني للمسيح: الاعتقاد بأن المسيح سيرجع ويحكم العالم ويعرف بالإيمان بالعصر الألفي السعيد.

ثم واصل المؤلف في شرح صعود الأصولية المسيحية بعد الحرب العالمية الثانية, فمن خلال الاستفادة من حرية التعبير وحرية الأديان التي يضمنها دستور الولايات المتحدة العلماني الديموقراطي أسّس القادة المحافظون شبكاتهم التلفزيونية والإذاعية الخاصة والمُكرّسة للبرامج الدينية, وغذا ملايين المحافظين والأصوليين مستمعين ومشاهدين ومتبرعين لهذه البرامج.

وفي عام 1952 عرض الحزب الجمهوري على أيزنهاور ترشيحه للانتخابات الرئاسية. وخلال رئاسة أيزنهاور زيدت عبارة "أقسم بالله" على قسم الولاء لعلم الولايات المتحدة الأمريكية إذ كان النص قبل التعديل:
" أقسم بالولاء لعلم الولايات المتحدة الأمريكية وللجمهورية التي يمثلها: أمة واحدة غير قابلة للتقسيم ذات حرية وعدالة للجميع"
وبيّن المؤلف العلاقة بين الدين والسياسة والتحدي الفكري والاستجابة له, ففي الانتخابات الرئاسية عام 1976 تحدَى حاكم جورجيا الأسبق جيمي كارتر الرئيس الجمهوري فورد بشعار أنه قادم لإصلاح الأمور داخل البيت الأبيض كما أعلن أيضا أنه " مسيحي وُلد من جديد ". وتطرّق المؤلف للتزاوج بين الأصولية الاقتصادية والأصولية المسيحية, واستند على نفس المصطلح الانجيلي في عبارة حزب جمهوري " وُلد من جديد ".

ومع اقتراب موعد الانتخابات عام 1980 أخذ الاستراتيجيون الجمهوريون يعملون على وضع أوسع أجندة محافظة ممكنة لتنال إعجاب قطاع عريض من الجماعات اليمينية. وأدركوا أن توحيد جميع اليمينيين على اختلاف مشاربهم يقتضي أن تشتمل هذه الأجندة على قضايا اقتصادية وأخلاقية مناصرة للأسرة بالإضافة إلى إعلان معارضتهم للمثلية الجنسية والإجهاض والطلاق والعلمانية الإنسانية والدعم القومي القوي لإسرائيل. وكانوا يدركون تمام الإدراك أنه بسبب كون الإنجيليين جزءا من مجموع البروتستانت في الولايات المتحدة, فإنه لم يكن هناك من سبيل للنجاح إلا بتوحيد كل الأصوليين من كل الطوائف والتجمعات الدينية.

أثبتت نتائج الانتخابات عام 1980 نجاح سياسة " شراكة الحرب " والأجندة الأصولية بانتصار ريجان, وكان التضخم الركودي أحد أهم الأسباب التي أدت إلى خسارة كارتر, والتضخم الركودي هو حالة يشهد فيها الاقتصاد معدلات بطالة عالية ومعدل تضخم عالٍ في الوقت نفسه.

كانت فترة رئاسة ريجان وبوش التي امتدَت 12 عاما (1980- 1992) فترة تعلَم بالنسبة للأصوليين, إذ أدركوا بأن الاقتصار على إيصال الرئيس إلى البيت الأبيض ليس كافيا إذ يجب فهم الطريقة التي يعمل بها الكونجرس, فأعضاء الكونجرس هم الذين يصوتون على القوانين, فإذا لم يحظ مشروع قانون ما بموافقة أغلبية الأصوات فإنه لا طائل منه. كما تعلموا أن أعضاء الكونجرس لا يصوتون على قاعدة " الصح والخطأ " بل إن معاييرهم هي في الفوز في الانتخابات التالية, وبالتالي فهم يصوتون لما يرضى أكبر قسم من الناخبين الناشطين حتى لو أدَى ذلك إلى التصويت إلى أمور غير مقبولة من الناحية الأخلاقية.

وكان لابد لإدارة بوش أن تُنفّذ أجندة الحركة الأصولية المسيحية وهي طويلة اشتملت على أجندة اجتماعية محلية بالإضافة إلى أهداف في السياسة الخارجية ومن أبرز ما تضمنته الأجندة المحلية من قضايا هي حظر الإجهاض وإحياء قراءة الإنجيل وإقامة الصلوات في المدارس العامة وتعيين القضاة المناهضين للإجهاض وغيرها. أما أجندة السياسة الخارجية فهي مبنية على أساس إيمانهم الإنجيلي بأن نهاية العالم ستكون قريبة, وأن الشرق الأوسط سيدخل في سلسلة من الحروب الكبيرة والطويلة تمهيدا لمعركة (هرمجدون) بين العرب وإسرائيل, والتي يجب أن تفوز إسرائيل فيها. ولذلك كان من أهم ما اشتملت عليه أجندة السياسة الخارجية زيادة الإنفاق العسكري والسيطرة على الشرق الأوسط لتأكيد تفوق إسرائيل, وإيجاد الظروف المُفضية إلى اندلاع معركة هرمجدون ليسهلوا على المسيح بناء مملكة الله على أرض إسرائيل عند مجيئه الثاني. يؤمن الإنجيليون إيماناً عميقاً بقصة نهاية العالم كما وردت في سفر الرؤيا في الإنجيل, وهم ينتظرون بفارغ الصبر المجيء الثاني للمسيح الذي يتمنون الدخول معه حسياً بأجسادهم إلى مملكة الله التي ستقام على أرض إسرائيل وتنتشر منها إلى العالم كله لتجلب السلام للمسيحية والإنسانية جمعاء خلال فترة حكمه التي ستمتد 1000 سنة أو ما يعرف أيضا (بالعصر الألفي السعيد). وبيَن المؤلف بأن الانجيليين يؤمنون بالمجيء الثاني للمسيح, فوفقاً لمعتقداتهم فإن المسيح سوف يعود إلى هذا العالم ليؤسس مملكة الله التي سيسلَم لها كل من على الأرض بأعمالهم ومعتقداتهم. وتستمر مملكة الله ألف عام من السلام والازدهار ولذلك تسمى الألفية السعيدة أو العصر الألفي السعيد. دفع الصراع العربي الإسرائيلي الدائر في الشرق الأوسط معظم الإنجيليين إلى الاعتقاد بمجيء المسيح قبل العصر الألفي السعيد. ويرى المؤمنون بهذا الاعتقاد بأن حدوث معركة (هرمجدون) أمر لا مفر منه, إذ ستكون العلامة الكبرى على مجيء المسيح وبالتالي فإنه في السياق العقدي والتاريخي الإنجيلي, تعتبر إسرائيل العامل المسرَع لأحداث نهاية الزمان, وهذا ما يزيد في حماس الأصوليين المسيحيين تجاه دعم إسرائيل حتى تكون قادرة على هزيمة الأعداء من أجل أن يكون ذلك مقدمة لسلام العصر الألفي السعيد. ولهذه الأسباب حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية فإن دعم إسرائيل يُعتبر من الثوابت لليمين المسيحي الجديد.

 


المكلا في 20 أبريل 2022م


*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter