| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الأحد 1 / 9 / 2024 د. سالم رموضه كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
ضباط ثورة 23 يوليود. سالم رموضه *
(موقع الناس)هذا العنوان مختصرٌ من عنوان كتاب " انشقاق الثوار - صراع ضبّاط ثورة 23 يوليو" لمؤلفه الأستاذ إبراهيم سطوحي والصادر في طبعته الأولى عام 1990م عن دار الزهراء للإعلام العربي بمدينة نصر, القاهرة. والكاتب وقتها كان مديراً بالتنظيم والإدارة بمحافظة المنيا وخريج قسم التاريخ كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1958م, وبالتالي فإننا نتوقع أن كل ما كتبه سوف يقع ضمن أبجديات النظام وحبكة الإدارة, ناهيكم عن التقيّد بضوابط الكتابة التاريخية وأصول منهجيتها. الكاتب الموقّر كتبَ في موضوع ليس بالجديد وتزدحم أرفُف المكتبات في مصر المحروسة بكتابات عدّة حول هذا الموضوع من أحداث ثورة 23 يوليو وتحليل منجزاتها بالسلب أو بالإيجاب, كما تتنوع البرامج الوثائقية في القنوات العربية والدولية بمقابلات وشهادات وتقارير مفصّلة عن الثورة وعن ضباطها. لكن ميزة هذا الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه, أنه تناول شخصيات ضبّاط ثورة 23 يوليو بالتفنيد لأدوار كل منهم وتتبّع سلوكهم الشخصي وخلفياتهم الاجتماعية واتجاهاتهم الفكرية وكيفية تعاملهم مع بعضهم ومع الآخرين من خارج دائرة تجمّعهم. كما وصف الكاتب ثورة 23 يوليو التي حرّكت واقع المنطقة العربية, بأنها كالبنيان لا يزول إلا إذا انتهى عمره الافتراضي أو إذا تعرّض للنسف, ذلك كان حال تلك الثورة والثوّار, فقد مرّت ثورتهم بمراحل الانشقاق من التشقق فالتصدّع ثم التهدّم. وبدأ الكاتب بموجب قناعاته بتهدّم بنيان الثورة مبتدئاً بهذه المرحلة الأخيرة, ولكنه استدرك ووضع مصطلح خروج اللامعين منهم ابتداء من محمد نجيب الذي تسيّد الشكل دون الجوهر إلى عبدالحكيم عامر الذي تألّق ولمع وكان الوحيد الذي لم يجعلْ هناك مسافة في السلطة بينه وبين عبدالناصر مؤسس تنظيم الضباط الأحرار والقائد الفعلي للثورة ويعامله بلا كلفة وبندّية ولكنه سقط سقطة مدوية بهزيمة 67م وما زال سبب وفاته لغزاً لدى البعض حتى اليوم. أما مرحلة تصدّع الثوار فهو خروج الأقل لمعاناً والذين ظلّوا في السلطة فترة الوميض القصيرة وهما ضابطان أثنان يوسف صديق الذي اقتحم القيادة وأول من غرس السنكي في جسد العهد الملكي فاستسلم, إلى عبدالمنعم أمين رجل الحفلات ولقاء السفارات ونوادي السيارات. ثم انتقل الكاتب إلى المرحلة الأولى وهي مرحلة تشقّق الثوار, بقوله هكذا كان باقي ثوار يوليو أحد عشر صاغاً (رائداً) ويوزباشي (نقيباً) وبكباشي (مقدّم) وهم حسب خروجهم من السلطة:
خالد محيي الدين, صلاح سالم, جمال سالم, كمال الدين حسين, عبداللطيف البغدادي, حسن إبراهيم, عبدالحكيم عامر, زكريا محيي الدين, جمال عبدالناصر, حسين الشافعي, أنور السادات, يطوّقون لواء واحداً هو محمد نجيب الذي ما استطاع أن يسيطر على الوضع فكان من أوائل من كابدوا انشقاق الثوار.
استعرض الكاتب سيرة كل ضابط من أولئك الضباط على حِده بما فيه من إيجابيات وما لحِق به من سلبيات, وربما استعان في ذلك بمن كَتب عنهم أو من خلال ما كَتب بعضُهم في شكل مذكّرات أو ذكريات عن أدوارهم في الثورة ومساهماتهم في إنجازاتها. ولا شك إن من المحطاّت الفارقة التي مرّت على معظمهم هي أزمة مارس الشهيرة عام 1954م وتداعياتها والعدوان الثلاثي عام 1956م, ولكن نكسة 1967م كانت قاصمة الظهر لمن تبقّى منهم في السلطة. فعن زكريا محيي الدين, فقد وصفه بأنه من ألمع من كان مسؤولاً عن الأمن الداخلي في مصر, وبالتالي القهر المقنّن لإسكات كل صوت يعلو فوق صوت القادة. إنه بيريا مصر الشهير, وبيريا كما هو معروف كان وزير داخلية ستالين في روسيا الذي تعقّب كل المعارضين وحوّلهم من سكان الأرض لسكّان القبور حتى يتيح لستالين أن يعزف سيمفونية نظامه بلا ضجيج, استخدمُ هنا تعبير الكاتب نفسه بالنص. واستطرد الكاتب بإسهاب في وصف أدوار هذا الضابط الذي كان من أشجع ضباط حرب فلسطين والذي كان يتسلّل من بين القوات الإسرائيلية لتوصيل الإمدادات والرسائل للقوات المحاصرة في الفالوجة, كما كان مسؤول التحركات ليلة 23 يوليو, وكان متسماً بمظهر الهدوء وقلّة الكلام. وعمّرَ زكريا محيي الدين في مواقع السلطة إلى أن داهمت نكسة 67 مصر, وكان من القلّة الباقية على مسرح الأحداث فكان لا بدَّ أن يشترك في أدوار جديدة. وبعد زلزال 5 يونيو, ثم يوم 9 يونيو وخطاب الاعتراف الباكي من جمال عبدالناصر على الهواء المشبّع برائحة الهزيمة, وما زلتُ استخدمُ مفردات الكاتب بما فيها من التشفّي والشماتة. ودارت ملهاة التنحّي بعد خطاب الاعتراف بالمسؤولية التي هي بلا ثمن مدفوع, وقد تم رسم مسرحية التنحّي بذكاء شديد. وقد قال الرئيس عبدالناصر في خطاب التنحي بالنص" فقد كلّفتُ زميلي وصديقي وأخي زكريا محيي الدين بأن يتولّى منصب رئيس الجمهورية, وأن يعمل بالنصوص الدستورية المقررة ". ويستمر الكاتب بلهجته التهكمية قائلاً " استغل أعوان عبدالناصر شعور الناس في ذلك اليوم الأغبر وأعدَّ التنظيم السياسي الأوحد وهو الاتحاد الاشتراكي, الذي هو لوحة أزرار الزعيم وأرضيته التي تُعلّل كل تقصير مئات الشباب ووُزّعوا على مختلف أنحاء القاهرة وحُدّدَ لهم ساعة الصفر للتحرّك عقب خطاب التنحي وجلس الشعب القرفصاء يستمع إلى عبدالناصر في صوت مطعون وهو يودع شعبه بلا وداع ويُجهّز لسفرٍ بلا متاع فالعودُ أحمدُ لأرضِ الضياع".
وإن كنت اليوم في هذه العُجالة سأكتبُ شيئاً حول ذلك الكتاب فهو من باب أن الشيء بالشيء يُذكر لأني عايشت تلك الفترة القاتمة, وكنتُ في وسط الحدث في قاهرة المعز أبّان ذلك العدوان السافر. لقد صدفَ أن كنتُ مع أفراد دفعتي المبعوثين لمدرسة حنتوب الثانوية في السودان أبّان السلطنة القعيطية في زيارة لمصر خلال الفترة 20مايو-20يونيو1967م وكنا على مشارف السنة الثانية في المرحلة الثانوية. وفي يوم 9 يونيو عندما أذيع أن الرئيس عبد الناصر سوف يلقي خطاباً مهماً للأمة في مساء ذلك اليوم, ذهبنا لميدان الدقي بالجيزة وكان قريبا من مكان إقامتنا, وكان بأحد أركان ذلك الميدان مقهى شعبي يُسمّى " زهرة الميدان" والذي ظلَّ محتفظاً باسمه حتى اليوم بل ونفس طابعه وخدماته وكان يوجد به تلفزيون أبيض أسود في ذلك الزمان لنستمع للخطاب والذي أذيع على الهواء مباشرة في تمام الساعة السابعة مساء كما أذكر. وما أن أنهى عبد الناصر خطابه وكانت سماء القاهرة وشوارعها وأحيائها كلها مظلمة تماماً تحسّباً لأي غارة جديدة بل كنا نسمع أصوات المدافع المضادة للطائرات من أماكن قريبة للقاهرة وإذا بأصوات الناس وهتافاتهم ومظاهراتهم رفضاً لقرار التنحي تملأ الشوارع والميادين في ذلك المساء المظلم ولمّا يمضي بعد على الخطاب أكثر من نصف ساعة. فأي ترتيب وأي ذكاء يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا كان الأمر خارق للعادات وفوق فهم الناس؟ وما أن أصبح اليوم التالي إلا وكانت القاهرة في تلك الأجواء الصيفية الخانقة تضيقُ بناسها وبالقادمين إليها من الأرياف ومن الضواحي والأماكن القريبة بالحافلات والقطارات ومنهم من أتى راجلاً طوال الليل متورّم الأقدام مشحون بمطالب الصمود والتحدّي وليس بمشاعر اليأس والانكسار, وصَدفَ أن كنتُ شاهد عيان على كل ذلك.
المكلا في 1 سبتمبر 2024م
* نائب رئيس جامعة حضرموت السابق