|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  19 / 12 / 2021                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



دفعة رائدة من الديس الشرقية

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

لا بد لي أن أعترف منذ البدء بأنني كنت محظوظا للغاية بأن التحقت بدفعة دراسية رائدة في الديس الشرقية وهي الدفعة التي التحقت بالمدرسة الابتدائية في العام الدراسي 1958- 1959م. وهذه المدرسة هي تلك البناية الطينية العتيقة التي يشغلها اليوم مكتب التربية والتعليم, وهي دون شك أول مبنى رسمي تعليمي في الديس الشرقية. بُني بسطح ركنها الجنوبي الشرقي أبان التحاقنا بها غرفة إضافية وحيدة خُصّصت لمدير المدرسة ومعاونيه من المعلمين, كان المدير وقتها هو المرحوم مربي الأجيال نصر فرج مرسال. كنت متخلفا عن هذه الدفعة المباركة بسنة دراسية كاملة إذ التحقت بهذه المدرسة في العام اللاحق لها أي العام 1959- 1960م. ولأني كنت قادرا على فك الخط وأقرأ بيسر آيات من القرآن الكريم بخلاف أقراني التلاميذ المستجدّين, فقد نقلني ذلك المدير التربوي الراحل للمستوى الثاني مباشرة. صحيح أنني قبل أن أُسجّل بهذه المدرسة اليتيمة كنت قد انتظمت لإحدى كتاتيب المدينة وهي كثيرة وتسمى (العلمة). وكان من هذه الكتاتيب علمة (نَصَبْ) وعلمة (باصلعة) وعلمة (شيخ أحمد باظريس) وعلمة (بن طيور) وهذه العلمة الأخيرة هي التي أكملت فيها قراءة ستة أجزاء من كتاب الله العظيم, مرحلة وجيزة من عمر الطفولة شفعت لي بأن أُرفّع لاجتياز السنة الأولى وأنتظم في الدراسة مع الدفعة المميزة التي نحن بصدد الحديث عنها. هذه الدفعة بزغت في الزمن المناسب والتوقيت الجميل, جمعتها قاعات الدرس في مدرسة الديس الشرقية الابتدائية وهي المدرسة اليتيمة في زمن يرجع لعام 1958م, وكان مدير المدرسة كما اسلفت هو الأستاذ التربوي المرحوم نصر فرج مرسال, ثم خلفه في إدارة المدرسة الأستاذ الفاضل المرحوم محمد سعيد بن جوهر والذي انتقل لرحاب ربه هو كذلك بعد فترة وجيزة من رحيل سلفه الأستاذ نصر فرج مرسال. عاصر الأثنين معلمون أفذاذ منهم سالم عبود العفاري وحاج سعيد محروس ومحمد مبارك حمران يرحمهم الله وكذلك أحمد سعيد باحبارة ومحسن حسين الحوثري ومبارك بارفعة أطال الله أعمارهم.

وبعد انقضاء الفترة النظامية الابتدائية وهي أربع سنوات و لكنها بالنسبة لي كانت ثلاث سنوات فقط انتقل أفراد الدفعة الراغبين في مواصلة المرحلة التعليمية الثانية ومدتها كذلك أربع سنوات وتسمى المرحلة المتوسطة إلى مدينة الشحر للدراسة في مدرستها الشهيرة بمدرسة مكارم الأخلاق وهي تحتل المجمع السلطاني المسمّى الباغ وقد تبرّع السلطان القعيطي بالمبنى وملحقاته من ساحات واسعة وملاعب وحدائق وبئر مع بركة جميلة كنا نقضي أوقاتا رائعة للاستحمام في مائها الدافئ وغسل ملابسنا. كان ذلك في العام الدراسي 1962- 1963م وقد حَصَلت في هذا العام أحداث كبيرة منها قيام ثورة 26 سبتمبر وأزمة الصواريخ الكوبية التي اشتعلت بين الرئيس الأمريكي جون كنيدي والرئيس الروسي نيكيتا خروتشوف وقد وصلت تلك الأزمة إلى حدود خطرة هدّدت بمواجهة نووية بين القوتين العظميين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي والذي انفرط عقده في منتصف ثمانينات القرن المنصرم. كانت سنة جميلة في مدرسة الباغ بالشحر وتوزعت الدفعة في السنة الأولى المتوسطة لتختلط مع بقية التلاميذ من الشحر والبلديات المجاورة لها مثل زغفة وتبالة وعَرَفْ ومعيان المساجدة والمقد وغيرها على ثلاثة فصول هي سنة أولى خالد وسنة أولى طارق وسنة أولى حاتم. كان لنا سكن مقبول وتغذية منتظمة للوجبات وعصر كل خميس نذهب في طابور مرتب لسوق البلدة لنشتري ما نحتاجه وهو قليل ومنا من يذهب لركوب الدراجات الهوائية مع زملائنا من الشحر وأذكر أني كنت استعير دراجة الفقيد سالم سعيد عبدون والذي مات أثر سقوطه من أعلى مبنى السكن الداخلي في ظروف غامضة في ألمانيا الديمقراطية قبل توحيد الألمانيتين. أما يوم الجمعة فقد كان يُرتب لنا طابور آخر لأداء صلاة الجمعة في جامع المحط خارج سور المدينة وأظنه لم يعد موجودا اليوم. كانت الحياة الدراسية مزدحمة بالنشاط اللاصفي من عمل مسرحيات ومساجلات شعرية ومباريات كرة القدم على وجه الخصوص وكان فريق المدرسة يحرز الانتصارات الجمّة ولا عجب في ذلك لأنه يضم نخبة من اللاعبين المحترفين مع نادي كوكب الصباح ونادي شباب الجنوب لعل منهم الحارس المتألق فرج بايوسف واللاعب محمد الطيب ومحمد الجحوشي وهادي زيدان رحمة الله عليهم جميعاً. وفي أمسيات الباغ كان الزميل محمد عبد اللطيف باخوار يتولّى تدريبنا على ألعاب يقول أنها سواحلية مقرونة بالأهازيج العجيبة التي نردّدها خلفه دون فهم لمعناها من قبيل" كبوزي! كبوزي! شميمة! شميمة! ". مكثت هذه الدفعة سنة دراسية كاملة بالشحر لم نعد للديس إلا في فترة الأعياد فقد كانت الطريق وعرة ولها خط سير يختلف تماما عن ما هو عليه اليوم ناهيكم عن قلة السيارات الصغيرة والسفر عادة يكون مع شاحنات البضائع ونكون محظوظين إذا كانت السيارة محملة بأكياس الأرز حيث نعتلي سطحها مع تهاديها برزانة وتثاقل محببين. لقد سعدنا بأساتذة أفاضل منهم الأستاذ محمد عتعوت والشيخ حبليل والشيخ يسلم سند والشيخ أحمد بن سلم والأستاذ عمر باسنبل والشيخ محمد سالم باعباد يرحمهم الله وضابط الداخلية المهندس فيما بعد عبدالله سعيد باصالح رحمة الله عليه. بعد انقضاء تلك السنة, عادت الدفعة بكاملها للديس الشرقية لتدشّن المستوى الثاني في مدرسة الديس الشرقية المتوسطة التي افتتحت في العام الدراسي 1963- 1964م وتم قبول المستوى الأول في نفس العام بطبيعة الحال. وكان مبنى المدرسة بيتا مستأجرا من أهل باصلعة للفصول الدراسية وملحق بيت للوالد المرحوم محفوظ عبدالله بارقعان للإدارة ومكتب المعلمين. أدار المدرسة الجديدة باقتدار التربوي الرزين والأنيق أحمد عمر بن جميل رحمة الله عليه, وأعانه ثلّة من المعلمين لعل منهم عبد الرحيم غوث با وزير ومحمد عتعوت وشيخ عباس عبد الصادق ومحمد عبيد واتين والأستاذ سعيد عبدالله باعنقود والأستاذ عمر باباسط وأساتذة أفاضل من السودان ومنهم أحمد خوجلي للرياضيات وفيصل هلال للتاريخ رحمة الله عليهم جميعاً. كانت فترة الدراسة مشوّقة للغاية رغم شظف العيش وقتها ولكنها اتسمت بالبساطة وحب الدرس والتحصيل واحترام المعلم وتوقيره. فقد كانت حصص التاريخ ممتعة وجاذبة وأبدع فيها الأستاذ فيصل هلال بطريقته الآسرة وإلقائه الرخيم وهو يسرد أحداث التاريخ في الحقبة الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ومنتصفه مع شخوص بسمارك ونابليون وهتلر وموسيليني وروميل ومنتوجمري وأحداث ثورة فلسطين الأولى والثورة الجزائرية. كنا نجتمع في بعض العصريات في بيت الزميل حسين سعد السباعي في الواسط لنتداول بطريقة بريئة وحماسية أحداث الوطن العربي دون التزام لأي جهة كانت. عندما تخرّج البعض من أفراد هذه الدفعة من مراحل التعليم المتقدمة الأخرى تبوأ منهم كوادر مناصب إدارية عليا في حضرموت وخارج حضرموت, ومنهم من برز في مجال الرياضة والثقافة أمثال جعفر فرج بازياد وعبدالله عوض باخبازي وإبراهيم يسرين بامهيدي وأحمد حسن حمدون يرحمهم الله والزملاء أطال الله أعمارهم محمد عبدالله الحدّاد وعبيد سالم با بريدة وسعيد سالم بريك ومحمد صالح بن سماعيل وعبدالله عمر باخوار وأحمد محفوظ الحداد وعوض ربيع بامقد وأحمد محمد المعيا وسعيد عبدالله مصاقع وعبد الرحمن محمد هبير وكاتب هذا المقال. الحديث عن هذه الدفعة المميزة ذو شجون, دعائي لمن تبقّى منهم بطول العمر ورحم الله من انتقل لرحابه.


المكلا في 18 ديسمبر 2021م


*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter