|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  15 / 7 / 2021                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



البحث العلمي والقضاء على قيود التخلّف

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

البحث العلمي هو عملية منظّمة لاكتشاف الحقائق من خلال تحليل الظواهر والمشاكل الحياتية بهدف معالجتها وهو في نفس الوقت نشاط علمي منهجي يتناول إحدى الظواهر الطبيعية أو الإنسانية بهدف وصفها وتفسيرها والتحكّم بها والتمكّن من المبادئ التي تقوم عليها لتطويعها لصالح الإنسان والمجتمع.

وربما كان للبحث العلمي في اصطلاح العلماء تعريفات متعدّدة لعلّ منها:

1- إنه عملية منظّمة تهدف إلى التوصّل إلى حلول لمشكلات محدّدة أو إجابة عن تساؤلات معيّنة باستخدام أساليب علميّة محدّدة يمكن أن تؤدي إلى معرفة علميّة جديدة.
2- هو جهد فكري منظّم باستخدام مناهج البحث العلمي ويستهدف تنمية المعرفة الإنسانيّة واكتشاف الحقائق.
3- هو محاولة دقيقة ناقدة للتوصّل إلى حلول للمشكلات التي تؤرّق البشريّة وتحيّرها.

ولهذا يشكّل البحث العلمي الحجر الأساس في تطوير وتجديد المعرفة الإنسانية وحل المشكلات القائمة بفضل المكتشفات العلمية الجديدة التي يولّدها البحث في الحقول المعرفية المتعدّدة. وبناء على ذلك فإن البحث العلمي يُشكّل أساساً مهمّاً في زيادة إنتاجية العمل ورأس المال الوطني ومن ثمّ لا بد من النظر إليه باعتباره نشاطاً بالغ الأهمية في تكوين الثروات الوطنية والقومية, وتتنافس الدول في عالم اليوم بالاستثمار الكثيف والفعّال في أنشطة البحث العلمي والتطوير التجريبي حتى تحافظ على بقائها الاقتصادي, وأي إخفاقات في تحقيق هذا الهدف يهوي بها للتخلف عن ركب التقدّم الاقتصادي والاجتماعي والحضاري.

ومن البديهي القول أن حاضنات البحث العلمي وأطر مقوماته هي مراكز البحوث العلمية ومؤسسات التعليم العالي والجامعي, وربما يتفق الجميع على أن مؤسسات التعليم الجامعي تمثّل قمّة الهرم في السلّم التعليمي داخل المجتمعات الإنسانية وتُقدّم أرفع نموذج ثقافي في المعرفة والعلم والتقنية إضافة إلى تعليم الأجيال وتدريبهم على المنهجية في التفكير بهدف إعداد الطاقات البشرية القادرة على أداء أدوارها الاجتماعية بصورة منتجة تمكّن المجتمعات من التقدّم والازدهار فضلا عن التكيّف مع المستجدّات ومواجهة المتغيّرات الثقافية والاجتماعية والتواصل مع الجديد في الثقافة والعلم والتقنية.

وفي هذا السياق فإن مداخل البحث العلمي تُعتبر من المداخل الفعّالة في تطوير مؤسسات التعليم العالي والجامعي لا سيما حينما يُوجّه البحث العلمي إلى المجالات الحيويّة الملحّة التي تنهض بالمستوى المعرفي مع تركيز جهود العلماء والباحثين على القضايا الحقيقية التي تُواجه المجتمع الوطني في بيئاته المختلفة وتُعد منابر المجلّات العلمية والبحثية سواء كانت في أشكالها الورقية التقليدية أو واجهاتها الرقمية الحديثة من الأوعية الأساسيّة لعكس النواتج العلمية والمعرفية من البحوث العلميّة. إلا إنه لا بدّ من تحديد بعض المبادئ والأولويات في مجالات البحث العلمي التي تعتمد على دعائم أساسية لمنظومة التوجهات نحو آفاق المستقبل بالإمكان إيجازها في النقاط التالية:

- أن يكون البحث العلمي عملاً جماعيّاً منظّماً ورصيناً حتى تأتي نتائجه موثوقة يمكن الاعتماد عليها في اتخاذ قرارات إصلاحية تعتمد على نتائج البحث العلمي
- أن يتوجه البحث العلمي إلى معالجة المشكلات الاجتماعية حسب الأولويات في القضايا الاجتماعية الملحّة حتى يرتبط بالتنمية
- أن يستخدم البحث العلمي أعلى أنواع المنهجية العلمية وأحدث أصناف التقنيات والتكنولوجيا بمراقبة مكتبية جماعية واعية تقوم على الأخلاق والكفاءة بدلاً من المحسوبية والمنفعة الخاصّة
- أن يقوم على البحث العلمي خيرة القوى العلمية المفكّرة التي تخدم العلم وتُقدّر الاشتغال به وتُثمّن دوره في تطوير الحياة داخل المجتمع
- أن تتوفّر للبحث العلمي المصادر المالية والتقنية وأن يكون مسألة وطنية وقومية عامة من خلال تشريع ينظم جوانبه ويوفر له التسهيلات دون إعاقة

إننا ونحن نتطلّع إلى آفاق المستقبل في ظل وجود بيئة علمية مواكبة للبحث العلمي الصحيح والفعّال لا بدّ أولا من إعداد الباحث العلمي وترسيخ صفاته المميّزة لأن البحث العلمي يحتاج إلى باحثين علميين ولا يمكن أن يكون هناك بحث علمي بدون باحثين علميين. وينبغي أن يدرس الباحث المتدرّب عددا من العلوم المحدّدة والحديثة لكي يتمكن من العمل على النحو المناسب ومن هذه العلوم الرياضيات والمنطق والإحصاء وتاريخ وفلسفة العلوم والتفكير الناقد. كما لا يمكن أن يُعد تدريب الباحث العلمي مكتملاً حتى يكتسب قدراً من المهارة في عدد من التقنيات ومنها صياغة ومعالجة الأفكار بلغة بيانية سليمة ومعالجة البيانات وفهم مدلولاتها وتصميم التجارب في صورة تُفضي إلى نتائج مهمة ومتميّزة وإثراء وتنمية مستقبل المعرفة وتطبيقاتها. ويتّسم الباحث العلمي بصفتي الخيال والأصالة كشرطين أساسيين للإبداع ولا يمكن أن تتحوّل صفتا الخيال والأصالة إلى الإبداع والإنجاز بدون صفة المثابرة. كما يرتبط بصفة المثابرة قوّة التصميم وسعة الأفق مع حرص دائم على مصادر الأفكار وذلك حتى يتمكن الآخرون من المهتمين من اقتفاء أثره واختيار قوة الحجج المقدّمة.

ومن المؤسف بمكان أن نوصم نحن العرب والمسلمون في عالم اليوم بالتخلف العلمي والتقني مع أن التاريخ يشهد أن العرب والمسلمين قد حققوا في الماضي أعظم المنجزات, كما يبرهن العرب والمسلمون الذين هاجروا إلى الدول الغربية المتقدّمة للعمل هناك في بيئات ملائمة على أنهم قادرون على التفوق على أقرانهم في شتّى المجالات بما فيها مجال العلوم والتكنولوجيا الذي يزعم الغرب احتكاره في هذه الأيام. وخير مثال على ذلك العالم العربي المصري أحمد زويل عليه رحمة الله الذي نال جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999م وقبله وربما بعده كثير من العلماء المسلمين. ومع كل ذلك فقد جاء تعامل الغرب معنا من منطلق تميّزه بالتقدّم والإنجازات العلمية مستهدفاً فرض تفوّقه واحتكار أسرار كثير من مجالات التقدّم العلمي لديه. ولم يكتف بذلك وإنما توسّعت لديه ساحة الصراع الحضاري وأساليبه إلى إحداث تصدّعات في بنية الكيان العربي والإسلامي, فتصدّى لفريق وَصمهُ بالإرهاب وسخّر معظم إمكاناته التقنية والثقافية لتدميره وتشويه مقاصده ومواقفه ودفعه في بعض الأحيان للانحراف نحو مزيد من التطرّف والغلو, وتصدّى بالوقت نفسه لفريق الاعتدال والوسطية وسخّر معظم فعالياته السياسية والاقتصادية والثقافية ليمارس مزيداً من الضغط عليه لتقديم التنازلات تلو التنازلات وتحقيق أكبر قدر ممكن من التبعية والاستسلام إضافة للصراعات المحلية والاقليمية يقودها في طريق التجزئة والانقسام بحيث زادت مسافات التخلّف وتباعدت مستوياتها.

إن لدينا ثلاثة أمور للقضاء على قيود التخلّف الذي وُصمنا به وهي العلم والإرادة نحو التغيير والإمكانات المسخّرة للعلم والأبحاث العلمية. فعن طريق العلم نتخلّص من قيود الجهل والمقولات التي ليس لها أي سند من دليل أو برهان وبالإرادة الصلبة نتخلّص من عبودية العادات السلبية ونعمل ما يمليه علينا العقل القيام به وعن طريق تسخير الإمكانات لما هو نافع ومنتج نتخلّص من ضغوط البيئة وتحسين أحوالنا المعنوية والمادية. تلك هي في الختام المسارات الصحيحة والعقلانية لإرساء قواعد البحث العلمي المؤدية إلى آفاق مستقبلية واعدة ومزهرة تعزّز الاحترام للمعرفة وبيان دورها في إحراز التقدّم الحضاري والإنساني.
 


المكلا في 15 يوليو 2021م


*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter