|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  13 / 6 / 2018                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



شريعة الغاب

د. سالم رموضه
(موقع الناس)

ربما كنت أكن للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران كثيرا من الامتنان لأنني تحصلت في عهده على منحة دراسية لدراسة الدكتوراه في فرنسا عام 1982م, تنقلّت فيها في السنة الأولى وهي التي يسميها مكتب البعثات في فرنسا بسنة الاستقبال بمدينتين رائعتين أثناء فترة تعلم اللغة الفرنسية وهما روان وبيزنسن قبل الاستقرار في المدينة الوردية الجميلة مدينة تولوز في جنوب فرنسا لمدة أربع سنوات لاستكمال برنامج الدكتوراه في مختبر المواد بالمعهد القومي للعلوم التطبيقية تحت إشراف الأستاذ المتقاعد حاليا شارل هنري دي تريشي وتوجيه الأستاذ الراحل جون كلود مازو رئيس مختبر الهندسة المدنية وقتها. وليس في الأمر مجرد الامتنان وحسب ولكني تأثرت كثيرا بمظاهر الإنسانية الشفافة ومنظومة القيم الخلقية التي تحيط بالمجتمع الفرنسي ومدى تقديرها لعمل الإنسان واحترامها للعقل ومنهجيته التي يتحرك بموجبها.

مكّني مختبر المعهد القومي للعلوم التطبيقية بتولوز من السفر لخارج فرنسا للمشاركة ممثلا لأساتذتي بأبحاث علمية في كل من لوزان بسويسرا وبوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية, ناهيكم عن عدة مشاركات علمية على مستوى الداخل الفرنسي. كما تمكنت بفضل سمعة المعهد العلمية من زيارات استطلاعية لكل من مدريد ومدن الأندلس قرطبة وإشبيلية وغرناطة وعاصمة المملكة المتحدة لندن وبعض مدنها التاريخية والعلمية مثل اكسفورد. واليوم في عهد الرئيس الحالي أمانويل ماكرون, وقد غبت عن فرنسا أكثر من ثلاثة عقود, ربما شاهد الكل اللفتة الإنسانية الرائعة التي أبداها تجاه ذلك المهاجر الذي دخل فرنسا بطريقة غير شرعية والذي أنقذ طفلا فرنسيا من السقوط من الدور الرابع لأحدى البيوت بأن منحه الجنسية الفرنسية وألحقه بجهاز الإطفاء في فرنسا. ولدي الكثير من المواقف الإنسانية المؤثرة التي مررت بها أو مرّ بها زملائي الباحثون المبتعثون لا يسع المجال لسردها في هذه العجالة.

ولكني لن أنسى على المستوى العام تلك الأحداث الصاخبة التي أعقبت تولي اليمين بقيادة جاك شيراك الوزارة ولما يزل الرئيس اليساري فرانسوا ميتران في سدة الحكم ولم تنته مدّة ولايته بعد. فقد تبنّى وزير التعليم العالي الجديد وهو من حزب اليمين بطبيعة الحال قانونا لتخصيص التعليم العالي في بعض الجامعات الفرنسية ومنها جامعة السوربون بأن تفرض على طلابها بعض الرسوم الدراسية. هاج الشارع الفرنسي في كل المدن الكبيرة وخرج الشباب الغاضب المحتج على هذه السياسة الجديدة وربما كان الأمر في باريس العاصمة أكثر ضراوة بأن استخدم رجال مكافحة الشغب وسائل عنيفة ومفرطة في القسوة, مات على أثرها شاب فرنسي من أصول جزائرية خاله رجال الشرطة مهاجرا دخيلا. ذاك ضرب الوتر الحساس في النسيج الاجتماعي الفرنسي وخرج الشباب في اليوم اللاحق بمظاهرات أكثر حدة وغضباً بشعار ما زلت أذكره تماما حتى اليوم " أبدا لا تفعلوا مثل هذا أبدا". وفي أمسية ذلك اليوم الكئيب رأى الناس على القناة الفرنسية الأولى الرئيس الفرنسي وهو يزور عائلة الشاب المقتول بسحنته الحزينة وهو يعزي تلك العائلة المفجوعة في ولدها. وسحبت الجمعية الفرنسية ذلك القانون واستقال وزير التعليم العالي المسمّى كما أذكر دي فاكو.

ولا يعني هذا أننا أمام سجل ناصع خال من أي نقاط سوداء, ففرنسا كانت في يوم من الأيام مستعمرة لكثير من الدول بما فيها دول عربية, مارست في بعضها أشد أنواع البطش والفتك والتنكيل, حتى صرنا نطلق على الجزائر التي قاومت الاستعمار الفرنسي ببلد المليون شهيد. وربما صدق القول بأنها تعاملت مع الثورة الجزائرية بمنطق شريعة الغاب. ومع ذلك يجب التفرقة بين نظام الحكم في بلد ما وبين شعب ذلك النظام فالأمر ليس سيّان.

وفي المقابل, تمر في مخيلتي دائما وربما لن أنساها حالات من مشاهد بشعة في التعامل مع الإنسان وفي دول عدّة ومنها العربية للأسف الشديد, يحركّها الحقد والكراهية وحب الانتقام غير المنطقي. الحالة الأولى منظر الشباب الذين يساقون في العراء في رمال سيناء وينفذ فيهم الإعدام الفوري دون محاكمات وإجراءات قانونية آخرها ذلك الطفل الذي سيق للرمال وأمر الضابط بدم بارد أن يُغطّى وتم إطلاق النار على رأسه وزخات من الرصاص القاسي على ظهره وبدم بارد متهكما على استغاثات الطفل بأمه بأن لا يخاف, فأبوه سوف يأتي لأخذه. وحالة أخرى أشد إيلاما وقسوة في القدس الشريف وكيف رأى الناس منظر ضابط الشرطة الصهيوني وهو يخنق طفلا حتى الموت على مرأى ومشهد من الواقفين بل فيهم من ساعده بتثبيت قدمي الطفل الذي كان يصارع عملية الخنق البشعة بمحاولة النطق بالشهادتين. وحالة ثالثة أشد بشاعة في جمهورية أفريقيا الوسطى وشاهد الناس في منظر حي ومباشر مليشيات من المتعصّبين وهم يُخيّرون أفراد من الجالية الإسلامية بين التنصّر أو الموت ذبحا. ولما ثبت أولئك النفر على دينهم نُفّذ فيهم الذبح كذبح الشاه على شفا حفرة حفروها حيث تُدفع جثّة المذبوح ركلا فيها في منظر لم تر الدنيا مثيلا له إلا في شريعة الغاب. وحالات مؤلمة في أحداث البوسنة, ربما الكل يذكر منها الكثير, وهي سجل بشع من حالات الإبادة الجماعية والممارسات الدموية في حق البوسنيين يصعب على كتب التاريخ رصدها وتجاهلها. وفي ميانمار وما أدراك ما ميانمار, وقائمة بمثل هذه المشاهد قطعا تسوّد تاريخ أي نظام يمارسها دون وازع من ضمير أو روح إنسانية. ولا أود أن أقلب المواجع عما حصل في العراق العظيم أرض الرافدين من ممارسات غير إنسانية ربما شاركت فيها معظم الأطراف المتصارعة بما فيها قوى الاحتلال البغيض. وما يحصل في سوريا وأرضها الطيبة ليس ببعيد وكذا الأمر في ليبيا أرض شيخ الشهداء عمر المختار واليمن أرض الحكمة والإيمان ولو بدرجات أخف.

لا لشريعة الغاب وقوانينها البشعة, ونعم للقيم الإنسانية وللمثل العليا, ونعم لاحترام عقل الإنسان ولعمله في شتى بقاع المعمورة, ولا لظلم الإنسان وتحقير إنسانيته والتعدّي على حقه في العيش بسلام في أرضه وممارسة كافة معتقداته دون عسف واضطهاد. لا للحروب العبثية التي استنزفت مقدّرات الأمة وخيراتها. لا لكل حرب تدور هذه الأيام بالوكالة لقوى إقليمية أو دولية في منطقتنا العربية تحت شعارات طائفية أو مذهبية بغيضة هجرها العالم المتحضر إلى غير رجعة بينما يعاني منها إنسان هذه الأرض الأمرين. نعم للحوار الهادف البنّاء ولا وألف لا لحوار المدافع والسيوف ولغة الأنياب والمخالب تحت يافطة شريعة الغاب الفتّاكة.



 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter