|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  12  / 12  / 2022                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



شامة على خد الزمن

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

هذا مطلع أنشودة جميلة للفنان والمُلحّن العراقي الراحل جعفر حسن الذي حلّ في مدينة عدن ومكث فيها قرابة عشرين سنة, يتغنّى بأغاني وأناشيد سياسية يمنية ووطنية في منتهى الإتقان, وتتّسق مضامينها مع الاتجاه السياسي العام لنظام الحكم وقتها في جنوب اليمن. وهو نظام تبنّى النهج الاشتراكي بحديّة شديدة في بلد صغير غالبية مواطنيه تعاني من الجهل والفقر والتخلّف, غير إن هذا الفنّان فرض حضوره ضمن منظومة الأجهزة الثقافية المركزية المسؤولة عن الإعلام الموجّه والتحريض الشعبي في نظام الحكم الشمولي في عدن الذي رسّخ مداميك حكمه بإجراءات صارمة وقاسية. ربما كان من تلك الإجراءات الغريبة في بداية السبعينات خروج الأتباع والمشجعين وللأسف أغلبيتهم من البسطاء السُدّج في مسيرات صاخبة جابت العاصمة عدن طوال أسبوع بكامله أطلق عليه مسيرات الأيام السبعة المجيدة. كان أغرب ما في ذلك الأسبوع المطالبة بتخفيض الرواتب الحكومية وهو مطلب كان بالإمكان تحقيقه بإجراءات هادئة ونظامية دون الاعتماد على تلك الهبّات التي اتّسمت بالفوضى والتجاوزات الشنيعة, الأمر الذي جعل غالبية القيادات العُليا في الدولة والحزب الحاكم أن تنتقده فيما بعد. وفي ذلك الأسبوع كذلك برزت مسألة تأميم المساكن والبيوتات التجارية أو ما أطلق عليه تأميم كل المرتفعات الاقتصادية في البلاد, وقد تمّت فيما بعد كذلك مراجعة كل تلك الخطوات الارتجالية وأعيد بعض من تلك الممتلكات لأصحابها. ربما كانت أمام الثوار الشباب الحكّام وقتها مهمة صعبة للغاية تمثّلت في كيفية تحويل المجتمع القديم إلى مجتمع اشتراكي ونشر الأفكار والرؤى المادية نحو الحياة في المجتمع ومحاولات حادة وقاسية لربط النظريات بالتطبيق في مجتمع خرج للتو من ربقة الاستعمار البريطاني الذي دام حكمه قرابة 129 سنة منذ أن غزت بريطانيا عدن صبيحة يوم التاسع عشر من يناير 1839م. ولا شك أنه من الإنصاف القول أن التجربة رغم قصر مدّتها الزمنية التي لا تزيد عن 23 سنة ورغم كثير من التجاوزات والسلبيات التي صاحبتها, إلّا إنها كانت تجربة تفرّدت بكثير من الإيجابيات في المجال الاقتصادي والاجتماعي والصحي والتعليمي.

ولهذا وصل الحال بكثيرٍ من الناس اليوم أن يتحسّر على ذلك الماضي الذي غيّبته تقلبات الأيام, رغم ما اعتراه من مثالب جمّة, وإن كنت أود عدم التطرق لتجربة فريدة لا استطيع بإمكانياتي الفكرية المتواضعة أن أخوض في مجال تحليل إجراءاتها المتعددة ومجريات خطواتها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي, ناهيكم عن التطرق لمجمل إيجابياتها ونواحي سلبياتها, فذاك اليوم كله أصبح في ذمة التاريخ وربما يلزمه أناس متخصصون في علم التاريخ, ولا أزعم لنفسي على الإطلاق أن يكون لي أي مكان بينهم.

أتحدث عن عدن المحروسة التي احتلتها بريطانيا سنة 1839م لحماية الطرق التجارية للإمبراطورية التي وُصفت بأنها لا تغرب عنها الشمس, كما أبرمت بريطانيا معاهدات حماية مع القبائل والسلطنات المجاورة والمحيطة بمدينة عدن وشملت هذه المعاهدات فيما بعد سلطنات حضرموت بشطريها الساحل والوادي. وأصبحت عدن مستعمرة تابعة للتاج البريطاني, وفي عهد الحكم البريطاني ذلك تم إعلان مدينة عدن ميناء حراً ازدهر بشكل ملحوظ خاصة بعد افتتاح قناة السويس سنة 1869م. وبذلك شكّل موقع عدن الجغرافي والاستراتيجي, بالإضافة إلى ازدهار مينائها عامل جذب للعيش فيها لسكان قادمين من الهند والصومال وشمال اليمن وربما من السكان الفرس والسكان اليهود أيضاً. وفي سنة 1967م نالت عدن وسائر مناطق الجنوب العربي الاستقلال من بريطانيا أثر ثورة مسلحة سوف تختلف الرؤى حول أهدافها ومضامينها واتجاهاتها المتناقضة, وأصبحت عدن عاصمة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في أول تسمية للدولة الوليدة حتى تغيرت التسمية إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في مرحلة سياسية أخرى قصيرة وعاصفة, أي بعد سنتين من الاستقلال وبين مد وجزر للتيارات المتصارعة داخل أداة الحكم الشمولية للتنظيم السياسي الجبهة القومية, حيث تغلّب التيار اليساري في الجبهة القومية على مجريات الأمور وبالتحديد في يوم 22 يونيو 1969م وهو اليوم الذي أطلق عليه قيام الحركة التصحيحية. ثم لتتبدّل التسمية في مرحلة ثالثة في 22 مايو 1990م بإعلان الدولة الموحدة الجمهورية اليمنية بعد حذف الصفات الزائدة المصاحبة في ذيل أسم كل دولة من الدولتين المختلفتين تماماً في النهج العام لإدارة الدولة والتوجه الفكري ومنظومة القيم السائدة في مجتمع كل منهما.

وها نحن اليوم للأسف منذ عام 2014م, في دوامة صراع عسكري شمل الدولة من كل أطرافها وشل أسس التنمية وأضعف الاقتصاد الوطني وأسهم في انهيار العملة الوطنية وتسبّب في غلاء المعيشة, لدرجة لا يتحملها المواطن متوسط الدخل ناهيكم عن المواطن البسيط الكادح. وحقيقة كانت هناك كثير من المنجزات تتمتع بها هذه الفئات الكادحة في دولة الجنوب ما قبل الوحدة الاندماجية. ففي دولة ذلك الزمان استطاع أن يتزوج من هم من أفراد جيلي بمهر زواج لا يتعدى المائة دينار وهي تعادل 300 دولار بموجب الصرف في ذلك الزمان, إذ كان قيمة الدينار ثلاثة دولارات. أما المواد الغذائية فقد كانت مدعومة من قبل الدولة وبالذات المواد الأساسية لأقوات الناس اليومية والضرورية. وكانت العملة الوطنية مستقرة وسعر الصرف ثابت لا يحيد ولا يتأثر بمضاربات السوق العالمية. اهتمت الدولة ببناء مقرات مؤسساتها السيادية ولا تستأجرها كما هو حاصل اليوم. كما تبني الدولة مساكن ووحدات سكنية لكوادرها وتملكها لهم بالتقسيط المريح. أين نحن اليوم من كل تلك المؤشرات الإيجابية؟ فالريال اليمني الذي كان مناطحاً للريال السعودي حتى لزمن قريب, أصبح اليوم في مرحلة ضعف محزنة, إذ يتفوق عليه بأكثر من 300 ضعف. كانت ملابس الأطفال ومحتاجاتهم الضرورية من ألبان وغيرها في متناول الجميع ولا تشكل عبئا على الإطلاق على كاهل رب الأسرة المتوسط الحال. وكانت الخدمات الصحية والتعليمية رغم شحة إمكانياتها وضعف تجهيزاتها, إلا إنها مكفولة للجميع, فالمراكز الصحية المجانية ومدارس التعليم الأساسي انتشرت بطول البلاد وعرضها وكفلت الدولة مجانية التعليم بما في ذلك التعليم الجامعي بل وشجعت الطلاب بحوافز رمزية ووفرت لهم التغذية المقبولة والسكن الداخلي في مبان سكنية بنتها لذلك الغرض. وعلى رأس كل هذه الأمور كان الأمن وهو عصب الحياة مكفول ومستتب, وقلما تحدث حوادث جنائية من أي نوع. كان بإمكانك التجول مع عائلتك بعد منتصف الليل ولا يتعرض سبيلك أي أحد. كانت عدن وهي جوهرة المكان والزمان بالفعل شامة على خد الزمن.


المكلا في 15 ديسمبر 2022م
 


* نائب رئيس جامعة حضرموت السابق
ورئيس جامعة الأوائل الحديثة حالياً
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter