|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  11 / 9 / 2021                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



ابكِ يا بلدي الحبيب

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

هذا عنوان رواية صدرت في منتصف القرن الماضي واشتهرت كثيراً لمؤلفها آلان باتون من مواطني جنوب أفريقيا والذي اكتسب شهرة عالمية واسعة بعد نشرها. فقد كان كاتباً ومصلحاً اجتماعياً وناشطاً مناهضاً لنظام الفصل العنصري الذي كان يُمارس في جنوب أفريقيا. وُلد في 11يناير 1903م في ناتال وتوفى في 12 أبريل 1988م في بوثاس هيل غرب ديربن. ركّز الكاتب آلان باتون على مشكلات بلده العرقية والاجتماعية وأسّس حزب جنوب أفريقيا الليبرالي, كما كان مديراً لإصلاحية ديبكلوف للأحداث الجانحين في المدينة الكبيرة جوهانسبرج, فقد أدخل عليها تغييرات تربوية وثقافية جوهريّة أحدثت تأثيراً كبيراً في مخرجاتها, إذ حُوّلت تلك الإصلاحية من سجنٍ إلى مدرسة.

لقد كانت هذه الرواية مقرّرة علينا في مادّة الأدب الإنجليزي في المستوى الثالث بمدرسة حنتوب الثانوية في وادي مدني بالسودان في العام الدراسي 68/69م, إذ كنّا مبتعثين في هذه المدرسة النموذجية من السلطنة القعيطية باعتبارنا ضمن الخمسة الأوائل في امتحان الشهادة المتوسطة في المدارس المتوسطة بالسلطنة, وقد تخرّج من هذه المدرسة العريقة كبار رجالات الدولة في حضرموت وكوادرها السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة. كان يدرّس هذه الرواية وبمنتهى الإتقان مدرّس لغة إنجليزية من جنوب السودان لا أذّكر اسمه الكامل بالضبط, ولكنّي أتذكّر وضوح وجدّية نطقه وتعابير حركاته المنفعلة مع تسلسل أحداث الرواية الحابسة للأنفاس لكل من كان جالساً في الصف في تلك المدرسة التاريخية في جزيرة حنتوب الواقعة على الضفّة الشرقيّة للنيل الأزرق ويقابلها على الضفّة الأخرى مدينة واد مدني عاصمة إقليم الجزيرة.

يقول الكاتب آلان باتون في تقديمه للكتاب إن القصّة ربما لم تكن حقيقية, ولكن باعتبارها سجل اجتماعي للوضع في جنوب أفريقيا فهي الحقيقة المرّة الواضحة والبسيطة. وبيّن أن التركيبة الديمغرافية وقتها في جنوب أفريقيا حوالي 11 مليون منهم مليونان ونصف من البيض ومن هؤلاء بالتقريب 60% يتكلمون الأفريقية و40% يتكلمون الإنجليزية ومليون واحد من الملوّنين البيض ومن دماء وجنسيّات أخرى, أما بقية السكان فهم من قبائل أفريقية سوداء. يتركّز السكّان في المدينة الكبيرة جوهانسبرج بحوالي 700 ألف نسمة, وهي مدينة حديثة ولكن بها الكثير من مساكن الصفيح البائسة والمحزنة.

تشدّ أحداث الرواية القارئ بصدق من صفحاتها الأولى عندما استلم الكاهن (ستيفن كميلو) القائم على كنيسة سانت مارك بقرية دوطشني, ناتال, رسالة مجهولة من دار الإرسالية التبشيرية بصوفيا تاون في جوهانسبرج مؤرخة في 25 سبتمبر 1946م من الكاهن (ثيوفيلوس سمانجو) وفحوى تلك الرسالة أنه يخبره فيها بأنه صدف أن تعرّف على سيّدة تُدعى (جيرترود كميلو) وهي مريضة جدّا ومن تشابه الأسماء استنتج بأنها ربما تكون أخته وينصحه بأن يأتي فوراً إلى جوهانسبرج لإنقاذها, وسوف يساعده على إيجاد سكن مناسب لهما. طلب ستيفن من زوجته أن تحضر له ما كان موفّراً لابنهم (أبسالوم) للذهاب للجامعة, وكان أبسالوم قد ذهب لجوهانسبرج للبحث عن عمته الضائعة جيرترود في جوهانسبرج, ولكن أي شخص يذهب لجوهانسبرج لا يعود أبداً لقريته, هكذا كان الفهم لديهم, بل حتّى لا يكتب رسائل لأهله ولا يذهب للجامعة ليتعلّم العلم الذي بدونه لا يستطيع أي رجل أسود أن يعيش, يذهبون إلى جوهانسبرج وهناك يضيعون, ولا أحد يسمع عنهم أبداً. وكان لستيفن كميلو أيضا إضافة لابنه وأخته أخ أكبر يُدعى (جون) ذهب كذلك لجوهانسبرج ولم يعد لقريته كذلك ولكنه اشتغل في أعمال النجارة وانخرط في العمل السياسي والنشاط النقابي.

بدأت رحلة الأتعاب والمعاناة لهذا القس الريفي البسيط الذي لم يختبر تجربة السفر من قبل, وهو يحاول أن ينقذ أخته التي للأسف اُضطرت أن تسلك طرقاً غير سليمة أخلاقياً. وكانت جيرترود قد ذهبت لجوهانسبرج مع طفلها الصغير للبحث عن زوجها الذي ذهب للعمل في مناجم الذهب في ضواحي جوهانسبرج وانقطعت أخباره. وتمكّن هذا القس البسيط وهو في طريقه إلى جوهانسبرج بالقطار أن يشاهد مناجم الذهب التي تشتهر بها جنوب أفريقيا, وهي ثروة اقتصادية هائلة يذهب ريعها لجيوب المحتلّين تاركين السواد الأعظم من المستوطنين الأصليين في فقر وعوز, الأمر الذي ساعد على انتشار الجريمة المنظّمة وحوادث القتل والنهب والسطو على بيوت البيض وهو هنا المحور الأساس لأحداث الرواية. وقد تورّط الابن أبسالوم مع مجموعة من الشباب الجانحين بمن فيهم ابن عمه في قتل أحد الناشطين البيض في مجال حقوق الإنسان وهنا تقع ذروة المأساة. أستطاع القس ستيفن كاميلو في بداية مهمته وبمساعدة القس سمانجو أن ينقذ أخته من وكر موبوء في أردأ حي بجوهانسبرج, وكر لصناعة وبيع الخمور الشعبيّة الرديئة وممارسة البغاء. ولكن خطوته الثانية في مهمته الصعبة كانت في معرفة مكان أبسالم الذي تنقّل من مكان سيّء الصيت في ضواحي جوهانسبرج إلى مكان آخر هروباً من الشرطة التي تبحث عنه في مقتل الكاتب والناشط الاجتماعي. وبعد عناء ومشقّة وبمعاونة أصدقاء القس سمانجو عثر على ضالته وابنه الوحيد في السجن المركزي ومحكوماّ عليه بالإعدام, ولم تشفع كثير من الوساطات وتطوّع محامين للدفاع عنه في تخفيف الحكم. عاد القس ستيفن كاميلو إلى بلدته دوطشني مع أخته وابنها محمّلاً بهم كبير وهو انتظار موعد تنفيذ حكم الإعدام في فلذة كبده أبسالم الذي تحدّد فجر أحد الأيام. وذهب ليلة ذلك الفجر القاسي إلى الجبل وهي عادة درج على القيام بها كلما تعرض لمصيبة أو نائبة من نوائب زمانه. ولكن ذلك الفجر كان فجراً من نوع فريد, فقد جاء لآلاف القرون ولكن لا يشبهه في توقيته وطقوس أحداثه, ويتساءل القس كاميلو في آخر سطر من الرواية في حبكة درامية من الكاتب آلان باتون متى يأتي ذلك الفجر الذي سوف يحرّرنا من الخوف من العبوديّة ومن عبودية الخوف, لماذا, ذاك هو سر.
 

المكلّا في 10 سبتمبر 2021م


*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter