|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  11 / 3 / 2021                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



أيها الماضي وداعاً

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

شدني للغاية الكتاب الرائع الذي أصدره اللواء الركن خالد أبوبكر علي الشاذلي باراس بعنوان ملفت ربما لا يتفق معه الكثيرون فيه وهو "أيها الماضي وداعا - ذكريات وخواطر" والذي رصد فيه بدقة وأمانة وموضوعية سيرة حياته منذ طفولته المبكرة في قرية ودودة في وادي حجر حتى الوقت الراهن من عمره المديد بإذن الله, أو بالأحرى حتى آخر عهد له بالشأن العام حين تعين في مجلس السلم والتضامن نائباً لرئيسه. وصادف أن حضرت الأربعائية التي تنظمها سكرتارية اتحاد الأدباء بالمكلا بشكل دوري ومنظم والتي احتفت فيها في تلك الأمسية بالكتاب والكاتب وتعرض فيها لسيل هادر من الأسئلة وربما بعض الانتقادات حول دوره ومشاركته في تلك المراحل السياسية من النضال الثوري حتى حقبة ما بعد استقلال جنوب اليمن, إلا أنه تحفظ عن الإجابة عن كثير من الأسئلة وأجاب عن بعضها بدبلوماسية ولباقة. وبالرغم أنه لا تربطني بالمؤلف أي علاقة شخصية ولست من جيله, إلا إنني شعرت بقربي منه وهو يحكي بأسلوب أدبي راقي أقرب للرواية التراجيدية تفاصيل حقيقية من سيرته الذاتية التي حرص فيها بشكل ملفت أن يسرد ما يخصه هو شخصياً وعلاقته بالأماكن والأشخاص والأحداث.

وقد وزع كتابه إلى جزأين, جزء خاص بطفولته التي صقلتها المآسي والأحزان, وقد سكب فيه معاناته المرة والقاسية وصموده وصبره بطريقة صادقة ومعبرة وشيقة جعلتني لم استطع ترك الكتاب إلا لضرورة قصوى, ناهيكم عن عدم سيطرتي على عبرات كثيرة ذرفتها وأنا أمر عبر الأسطر الحزينة تعاطفاً مع الطفل الذي تيتم مبكراً وفقد أعز أهله نتيجة لمرض السل المهلك. أما في الجزء الثاني من الكتاب فقد تحدث فيه بأسلوب سردي جميل كيف هلّ يوم استقلال ما سمي وقتها جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية وما لحقه من إرهاب الدولة والانكسارات المحزنة التي توالت وتعاقبت في شكل جولات دموية مأساوية خلفت وراءها شهداء وضحايا من رجالات حرب التحرير وربما فيهم من خيرتهم وكذلك من المواطنين الأبرياء. ظننت من ناحية أخرى أنني سأقترب منه أكثر عندما أشار في محاضرته أنه وثق في ملحق الكتاب قائمة بأسماء مناضلي ثورة 14 أكتوبر من أبناء حضرموت الأعضاء في الجبهة القومية.

ولقد كان الرجل صادقاً عندما قال إن النضال على مستوى جبهة حضرموت لم يكن يعززه لعلعة الرصاص وهدير القنابل إلا في حالة واحدة وحتى تلك الحالة حكمتها أخلاقيات المحاربين وقيمهم في تلك الأيام فقد كان للحرب قواعدها وأخلاقها الإنسانية التي أظهرها كلا المتحاربين وكم كان موفقاً للغاية في ذلك. أخذت بلهفة نسخة الكتاب الذي أحضره معه تلك الليلة وتصفحت على عجل أسماء المناضلين المدونين والمرتبين بموجب الحروف الأبجدية في الملحق وكثير منهم من هم في سني بل منهم من هو أصغر مني سناً. لا يهم لماذا لم ندرج ضمن ذلك الكشف الذي وثقه الكاتب وربما كثيرون غيري, إلا أنني أذكر تماماً أننا كنا نحضر سلسلة من اجتماعات تنظيم الجبهة القومية في الديس الشرقية, بيد أننا كنا في نهاية المرحلة المتوسطة بين عامي 1965 و1966م.

وعندما بعثنا للسودان أبان السلطنة القعيطية في عام 1966م للدراسة الثانوية استمرت اجتماعاتنا هناك ردحاً من الزمن ليس طويلاً, ولا داعي لذكر أسماء المسؤولين علينا في الحالتين, فأحدهما كان اسمه وارداً في الكشف الملحق بالكتاب أما الآخر فلم يورد بالرغم من وجود شقيقين له كانوا ضمن الكشف. وجدير بالإشارة أن تنظيم الجبهة القومية والذي استند بدرجة أساسية على الإرث الفكري لحركة القوميين العرب كان يلتزم ببرنامج تثقيفي صارم و ممنهج مبني على كتب ساطع الحصري وقسطنطين زريق والميثاق الوطني وكتابات مجلة الحرية اللبنانية وأدبيات التجارب الثورية في الجزائر و كوبا وفيتنام متخذاً من كاسترو وتشي جيفارا وهوشي منه أمثلة حية للنضال الثوري والعمل الحركي.

كما كان التنظيم ينهج أيامها السرية المطلقة وله قواعد مازلت أذكر منها القيادة الجماعية والنقد و النقد الذاتي ونفذ ثم ناقش. ولا يفهم من هذا الاستدراك أني أبحث عن مؤطأ قدم في تاريخ شائك فذاك الآن في ذمة الماضي الذي لا أقول له وداعاً ولم يكن لنا دور يذكر سواء حضور اجتماعات واستماع لبعض البرامج التثقيفية والتعميمات الحركية. وعلى كل حال فمن باب الوفاء وعدم نكران الجميل فإني أود أن أسجل هنا وبكل ثقة وصدق بالغ امتناني وخالص تقديري للنظام الذي بعثني لجمهورية السودان للدراسة في مدرسة حنتوب الثانوية, وتعتبر دفعتنا هي آخر دفعة ترسل لمدرسة حنتوب الثانوية قبيل الاستقلال بسنة واحدة فقط, علماً بأن كل دفعة تتكون من خمسة طلاب انتقل من دفعتنا اثنان لرحاب الله هما المرحوم خميس عوض حمدون من دمون والمرحوم أحمد حاج باصالح من زغفة وإثنان على قيد الحياة أمنياتي لهم بطول العمر وهما الأخ التربوي سعيد مبارك بايعشوت من حورة والأخ المهندس فؤاد حسن باشميلة من الشحر.

ومن هؤلاء المبعوثين الكثير الذين شملهم الكشف ومنهم من تبوأ مناصب مهمة في نظام دولة الاستقلال, وقد يكون صحيحاً أنه تجمدت عضويتنا في التنظيم منذ بدأت انكسارات الدولة المحزنة كما شخصها بفهم واطلاع الأخ المناضل خالد باراس. على كل حال ورغم أنني لست بذلك الناقد الفني والأدبي المؤهل إلا أني أود أن أشيد بالجهد الكبير والدقيق لكتابة وإخراج كتاب بمثل ذاك الحجم وغني بسرد أحداث مرحلة حاسمة في تاريخنا المعاصر اتفقنا معه أو اختلفنا, ناهيكم عن الأسلوب الأدبي الممتاز الذي اتسم به الكتاب من أول صفحة لآخر سطر فيه. ولا يخالجني أدنى شك أن المؤلف أثناء وجوده على مرحلتين في كل من سان بطرس برج ( لينينجراد ) سابقاً وموسكو, ورغم دراسته ومسؤولياته الجسيمة قد اقتطع من وقته المشحون بعض الاستراحات الهادئة لقراءة روائع الأدب الروسي وعمالقته العظام من أمثال مكسيم جوركي وليو تولستوي وفيودور دوستويفسكي وسولزنيتسن, وروايات عالمية من أمثال الأم والحرب والسلام والجريمة والعقاب ويوم واحد في حياة إيفان دنيسوفتش. ومن هذه الروايات من نال كاتبوها جائزة نوبل في الأدب.

وبناء عليه كم أتمنى أن يكرم مؤلف " أيها الماضي وداعاً " تقديراً لجهده الأدبي كما قد كرم لدوره النضالي, والكاتب على كل حال ليس في حاجة لمن يشهد له بأنه شخصية عصامية اتسمت حركته بالاستقامة والصراحة وعدم المحاباة وحكمتها نوازع الوفاء والخلق الريفي المعتمد على قيم الشهامة و المروءة والرجولة والرجال مواقف كما يقال.
 


*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter