|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  11  / 9  / 2023                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



سالم عبداللاه الحبشي
رائد تربوي وإداري من الرعيل الأول

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

وددتُ من طرح هذا المقال أن أبيّن أن هناك نماذج تربوية وإدارية في عالمنا العربي الكبير تكاد تكون متكرّرة في سماتها العامة وخصالها المتميّزة, ولا غرابة في ذلك فهي تخضع جميعها لظروف بيئية واحدة ولمنظومة قيم اجتماعية بالكاد تختلف في زوايا هامشية. فالتربوي والإداري المثالي في العراق أو مصر أو في أي بلد عربي آخر من المحيط إلى الخليج ترى له مثالاً بملامح أخلاقية وسلوكية متشابهة لا سيما من الرعيل الأول ومن جيل الرواد. وسكرتارية منتدى التربويين المتقاعدين بالمكلا بحرصها وبمبادراتها المتعدّدة أقامت في منزل الأستاذ التربوي أحمد سعيد باحبارة رئيس المنتدى جلسة لاستعراض سيرة رائد تربوي وإداري من الرعيل الأول هو المرحوم الأستاذ سالم عبداللاه الحبشي المولود في مدينة المكلا في عام 1933م والمتوفي في مدينة المكلا كذلك في 19 مايو 2004م. وقد شارك معظم الحاضرين في إثراء النقاش بالمداخلات الوجيزة التي تبيّن مكانة ودور الأستاذ سالم عبداللاه الحبشي في الحياة الأدبية والمسرحية من خلال كتابته مجموعة من المسرحيات الاجتماعية الهادفة وإن كُتب بعضها بأسلوبٍ نقدي ساخر, كما تطرّق البعض الآخر لحنكته الإدارية وانضباطه الصارم في تطبيق اللوائح الإدارية لا سيما في إدارته المخضرمة لقطاع البعثات والامتحانات وصرف الشهادات المدرسية, فهو قد عاصر نظام السلطنة القعيطية وبالتأكيد في آخر عهدها ثم نظام دولة الاستقلال عن بريطانيا في 30 نوفمبر 1967م وأخيراً نظام دولة الوحدة اليمنية في 22مايو 1990م.

وأشهدُ له شخصياً هذه الجدية الحازمة والانضباط والمتابعة في كثير من المواقف. فعندما كنتُ أتابع إجراءات سفري للسودان في الأشهر الأولى من عام 1966م للدراسة بمدرسة حنتوب الثانوية التي كان يُبعث إليها الخمسة الأوائل من المدارس المتوسطة بالسلطنة القعيطية, كان من ضمن الإجراءات الضرورية أن نستخرج شهادات تطعيم ضد ثلاثة أوبية هي الجدري والحمّى الصفراء والكوليرا من إدارة التحصين الصحّي بمستشفى المكلا, إذ لا يمكننا بدونها دخول مدينة عدن والتي كانت في ذلك الوقت مستعمرة بريطانية كما هو معروف. أما تذاكر السفر فكان من المعتاد أن يحتفظ بها الأستاذ سالم عبداللاه الحبشي لكل المرشحين للبعثة القعيطية ويتابع إجراءات سفرهم بنفسه في مطار الريان, وكنا في دفعة تلك السنة مثل كل دفع السنين السابقة خمسة مبتعثين وهم سعيد مبارك بايعشوت من حورة, فؤاد حسن باشميلة من الشحر, المرحوم أحمد حاج باصالح من زغفة, المرحوم خميس عوض حمدون من دمّون. وحدّد لنا الأستاذ سالم عبداللاه الحبشي موعد حضورنا لمطار الريّان الترابي المقابل اليوم للمطار الجديد بموجب الحجوزات التي عُملت لنا, وبهذا ذهب كل منا لبلدته لتجهيز نفسه للسفر ولتوديع أهله.

وبعد منتصف ليلة مظلمة, إذا بطرقٍ شديدٍ وملحٍّ على بوابة البيت التراثية والكبيرة في بلدتي الديس الشرقية, وتبيّن لنا أن الطارق هو سائق سيارة إدارة المعارف اليتيمة اللاندروفر, وقد أرسله الأستاذ سالم عبداللاه الحبشي الذي قلِقَ من عدم قدومي المكلا في الموعد المضروب فأرسل سيارة الإدارة إلى الديس الشرقية والتي تبعد عن المكلا مسافة 120 كيلومتراً وفي طريق غير مسفلتة في تلك الأيام لنقلي للمطار مباشرة, إذ كان السفر صبيحة اليوم التالي. أذكر إنا صلّينا الفجر مع الوالد عليه رحمةٌ من الله ومغفرةٌ في مُصلّى بجانب بركة ماء في أحد مزارع مدينة شحير القريبة من المطار, وهي في هذه الأيام قد اندثرت وأصبحت أثراً بعد عين للأسف الشديد. وصلنا المطار في صبيحة ذلك اليوم ووصل الزملاء جميعهم برفقة الأستاذ سالم عبداللاه الحبشي الذي تعوّد أن يودّع المبتعثين في كل سنة في صالة المطار, وبالمناسبة كانت دفعتنا هي آخر دفعة تبعثها إدارة المعارف بالسلطنة القعيطية, إذ كانت السنة اللاحقة تصادف سنة الاستقلال عن بريطانيا في يوم 30 نوفمبر1967م. وعندما عُملت لنا إجراءات السفر المعتادة, أتّضح أنه لم تكن بحوزتي شهادات التطعيم الأمر الذي جعلني أتلكأ في الإجابة أين وضعتها. واستاء الوالد كثيراً وغضب من فعلتي تلك غضباً شديداً مما جعل الأستاذ سالم عبداللاه الحبشي يهوّن عليه الأمر ويقول له أنت أرجع البلد الآن ياعاقل ولا تقلق وسوف نستخرج له شهادات أخرى بدل فاقد, ولا أدري كيف رجع الوالد الله يرحمه في ذلك الصباح, إذ كانت حركة السيّارات قليلة ومتعسّرة, ناهيكم أن عددها محدود ونادر. وبعد أن أقلعت طائرة الداكوتا ذات المحركين التابعة لشركة باسكو المملوكة لبيت باعبيد وباهارون رجعتُ مع الأستاذ سالم عبداللاه الحبشي إلى المكلا حيث استخرج لي شهادات التطعيم البديلة وأنزلني في أحد البيوت التابعة لإدارة التربية في وسط المكلا, قضيتُ فيه بقية اليوم وعاد إليّ في صبيحة اليوم التالي للذهاب للمطار وكانت هناك طائرة أخرى في برنامجها ذلك اليوم العودة لعدن, الأمر الذي لا يحصل هذه الأيام بعد مضي أكثر من نصف قرن. وفي مطار عدن كان هناك من يستقبل المبتعثين حيث يتم تسكينهم في فندق الجزيرة بالميدان في مدينة كريتر والذي كان في قمّة الترتيب والنظافة. حكيتُ هذه الواقعة بتفاصيلها لأدلّل على منهجية العمل الإداري والحس الإنساني والتربوي الذي يتّسم به المرحوم الأستاذ سالم عبداللاه الحبشي طيّب الله ثراه وأسكنه فسيح جنّاته وجزاه الله عني وعن كل من مرّت عليه ظروف مشابهة خير الجزاء.
 


المكلا في 10 سبتمبر 2023م


* نائب رئيس جامعة حضرموت السابق
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter