|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  11 / 11 / 2016                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية

د. سالم رموضه
(موقع الناس)

كثير منا كان يستمع ويشاهد عبر القنوات الفضائية بإعجاب وتفاؤل لهذه العبارة الختامية الجميلة والمؤثرة لذلك المتظاهر الثائر والناشط الشعبي في أرض تونس الخضراء, والذي كانت تعبيرات وجهه وإيماءاته غير الكلامية تعكس النتاج الأخلاقي والمنطقي لثورة أضرم شرارتها المقدسة بائع الخضروات الشاب محمد البوعزيزي عندما أحرق نفسه في ساحة بلدية سيدي بو زيد كطريقة للاحتجاج ؟

ربما لأن ذلك العامل الكادح المحبط شعر أن كرامته وآدميته قد طُمست وأهينت عندما تلقى الصفعة المهينة على وجهه من شرطية الدرك التونسية يوم 17 ديسمبر 2010م أمام مبنى البلدية وأمام لفيف من الملأ من قومه. إن متوالية من صور احتراقه الدرامية بذلك الإخراج الفجائعي الدامغ مثّل بيانا بالغ الأثر والدلالة على إدانة الهمجية والوحشية التي تُرتكب في حق الإنسان ليس التونسي فحسب, بل في حق الإنسان العربي المغلوب على أمره والمسلوبة إرادته في كل مكان. لأن تلك الشرارة واللهب المحيط بجسد ذلك الشاب الممهور كفاحه بشهادة جامعية لم تؤهله للأسف في عمل يتناسب معها غير بيع الخضروات على عربة بسيطة هي مصدر رزقه ورزق عائلته الفقيرة, حشدت بالفعل وأجّجت معظم الانتفاضات الشعبية أو ما سُمى فيما بعد بثورات الربيع العربي في كل من مصر وليبيا واليمن وسوريا أكثر بكثير مما حشدته مجمل الخطابات السياسية المتنافرة والشعارات الاجتماعية المتضاربة التي تُرفع في ساحات الاعتصامات الموسمية.

ولكن انقضاء أكثر من خمس سنوات بأكملها على تلكم الثورات, إذا حققت رصيدا نضاليا في ناحية, فإنها في المقابل قد حصدت في ناحية أخرى أرواح أناس أبرياء وأحدثت من تدمير للبنى التحتية ولمنشآت الاقتصاد الوطني في كل بلاد قامت فيها, ناهيكم عن الشرخ القيمي والأخلاقي في تلك المجتمعات, وما رافقه من تشتت ضار في الجهود الوطنية وتشرنق متنامي في أوساط الجماعات الدينية والطائفية والإثنية.

وهكذا لم تسلم ثورة من تلكم الثورات من انتكاسة أوالتفاف على أهدافها ومسيرتها وأمست تضحيات شبابها ودماء شهدائها مطية لأن تعود بعض الأنظمة السابقة المهترئة من جديد وأن تعيد تأهيل نفسها وتدوير أجهزتها الأمنية ووسائلها القمعية في قوالب جديدة وإن تغلفت بقوانين اللعبة الديموقراطية. إن دائرة العنف والانفلات الأمني في بعض تلك الدول أخذ منحى دراماتيكي خطير وأصبح في بعضها الآخر حربا بالوكالة لأطماع وتدخلات إقليمية لم يستطع أي طرف فيها حسم مجريات المعارك الدموية الطاحنة فيها لصالحه ويبدو أنه من الصعب الوصول إلى شيء من التسويات العسكرية الحاسمة, إلا إذا جلست مختلف الأطراف الفاعلة للخيارات السياسية تحت مظلة إقليمية أو دولية صارمة وهو الذي لم يحصل للأسف الشديد في أكثر من جبهة لذلك الصراع المدمر.

ومع ذلك فإنه بالإمكان القول أن هناك استثناء وحيد قد حصل في التجربة التونسية من حيث السير في مساق الديمقراطيات الحديثة خلال إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية بموجب القواعد الانتخابية المعترف بها والمتعارف عليها في العرف الدستوري وما شابها من إجراءات وممارسات نالت بها ثقة واحترام العالم أجمع لتخرج من عباءة المرحلة الانتقالية الثورية للحالة المستقرة الطبيعية التي يحكمها القانون والدستور ومؤسسات الدولة المدنية الحديثة.

لقد قدَم بائع الخضروات الشاب محمد بو عزيزي من منطقة سيدي بو زيد روحه الطاهرة مغلوبا على أمره متحسرا على مستقبل ضائع جراء مرارة القهر المعيشي والظلم الاجتماعي لتنبثق من ذلك شرارة ثورة الشعب التونسي التي توجت بنتائج لم تكن تدور في خلد ذلك الشاب الرمز, وحقّ لمن أتى بعده وهو يشهد حصاد الثورة التونسية, ومنهم ذلك الناشط الفطن أن يردد في ساحات تونس الخضراء "هرمنا ! هرمنا ! من أجل هذه اللحظة التاريخية".
 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter