|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  10 / 5 / 2020                                 د. سالم رموضه                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



 أصل المتاعب مهارة قرد

د. سالم رموضه *
(موقع الناس)

هذا العنوان مقتبس من جملة اختتم بها الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب في دورتها لعام 1988م روايته الشهيرة " ثرثرة فوق النيل" على لسان أحد أبطال روايته. وبالرغم أننا لا نود التطرّق لجوانب فلسفية عميقة حفلت بها الرواية من ناحية إلا إننا ربما نمسُّ جانباً من تلميحات النقد المبطّن للحقبة العروبية في جانبها الاجتماعي في عصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر من ناحية أخرى. هذه الرواية ظهرت في منتصف الستينيات من القرن المنصرم للكاتب الروائي والقصصي نجيب محفوظ ضمن سلسلة من إنتاجه الأدبي الذي حفلت به تلك الحقبة الفاصلة من تاريخ مصر بوجه خاص وأمتها العربية على وجه العموم. وأصلُ الحكاية مشاكل حظر اجتماعي وحظر تجوال على نفس نمط العنوان جرّاء ما يعانيه عالم اليوم من جائحة الكورونا التي حصدت أرواح الكثير في دول العالم المختلفة , الأمر الذي جعل من الواحد أن يعود لأوراقه القديمة وما تحتويه مكتبته العتيقة من كتب ومجلات, ربما ظلّت سنوات لم يلتفت إليها لمشاغل إدارية وشخصية وانشغالات اجتماعية وأسرية. ولقد قرأت هذه الرواية التي رأيتها ضمن كتبي وروايات عدّة غيرها للكاتب الكبير نجيب محفوظ وغيره من الكتّاب العرب والعالميين أثناء مرحلة الدراسة الثانوية في مدرسة حنتوب الثانوية بالسودان خلال الفترة 1966- 1970م. وإذا كان الحديث هنا فقط عن جانب العمل الروائي فقد كان هناك ما يجذبنا أيضاً لروايات توفيق الحكيم وطه حسين وعلي أحمد باكثير ومحمد عبدالحليم عبدالله ويحيى حقي والطيّب صالح وكثير غيرهم. ولقد خضعت هذه الرواية دون شك كغيرها من الروايات الأخرى لموجات من النقد والتقييم من أصحاب الاختصاص والاهتمام, وما حديثي اليوم إلا إعادة قراءة لهذه الرواية على مهل وسط جو رمضاني مبارك نختلس منه بعض الساعات لقراءات متنوّعة ومختلفة في هذا الشهر الكريم. هناك شقّان متلازمان في هذا العمل الأدبي, أحدهما جانب فلسفي تعكسه عبارات حائرة وتائهة لشخصية محورية من شخصيات الرواية أنيس أفندي موظّف بوزارة الصحة, تخيلته الصحفية سمارة بهجت التي أطلّت على المجموعة المنزوية السادرة في عوّامة على نهر النيل الخالد (بأنه نصف مجنون أو نصف ميّت), وأخبروني كيف تتأتّى الفلسفة والحكمة من فكر مثل هذا الرجل؟ ولهذا سوف نترك ما تتضمنه الرواية من فلسفة للحياة والكون والإنسان جانبا إذ لا نود أن نتورّط في الدخول في نفق مظلم ليس له ومضة ضوء في نهايته. أما الجانب الآخر وهو الجانب الاجتماعي والسياسي الذي ورد على ألسنة أفراد هذه المجموعة التي ضمّت شخصيات مختلفة المهن والاهتمامات وهو نقد من طرف خفي للتجربة الناصرية ونهج ممارساتها وتطبيق اجتهاداتها على أرض الواقع. ولهذا دعونا نلج مباشرة في رصد عيّنة من المقتطفات التي وردت في بعض تلك الحوارات وإن وردت في بيئة غير صحية من ناحية امتلاك العقل لكامل قدراته على الفهم والتحليل.

يخاطب رجب القاضي الممثّل والفنّان الآنسة سناء الرشيدي الطالبة بكلية الآداب عندما استغربت وجودهم في مثل هذه البؤرة المشبوهة وأبدت قلقها وخوفها عليهم من البوليس والمباحث بقوله (لا تقلقي يا نور العين فالدولة منهمكة في البناء ولديها ما يشغلها عن إزعاجنا) بل أضاف علي السيّد وهو ناقد فنّي معروف (لأننا نخاف البوليس والجيش والانجليز والأمريكان والظاهر والباطن فقد انتهى بنا الأمر ألا نخاف شيئاً). وقاطع رجب القاضي في موقف آخر أحمد نصر وهو مدير حسابات شؤون الموظفين في أحد الوزارات عندما بدأ التعرض بخبث لنفس الطالبة بقوله (أسكت يارجعي, إن أشنع تهمة في عصرنا هي الرجعية) وعندما تدخّلت ليلى زيدان وهي عازبة في منتصف العقد الثالث من عمرها ومترجمة في وزارة الخارجية ردّ عليها رجب القاضي بسخريّة (الغيرة ليست غريزة كما يقول الجاهلون ولكنّها تراث إقطاعي). وعندما حلّت ضيفة جديدة على هذه الشلّة بدعوة من علي السيّد وهي الصحفية سمارة بهجت والتي رغبت في زيارة العوامة قال خالد عزوز وهو في الصف الأول من كتّاب القصة القصيرة بعد حوارات متبادلة ( كل قلم يكتب عن الاشتراكية على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء وليالي الأنس في المعمورة). تلك عينات فقط من تعليقات لشخصيات من الرواية, أما عن الإشاعات التي تتناقلها المجموعة فهي لا تُحصى على حد قول بطل الرواية وهو يحدّث نفسه (وهناك الهاوية التي يرقد على حافتها العالم واللحوم والجمعيات التعاونية. وهل من جديد عن العمّال والفلاحين؟ والرشوة والعملة الصعبة والاشتراكية واكتظاظ الطرقات بالسيّارات الخاصّة). وهكذا يمضي بنا الحال مع تفاصيل كثيرة أخرى لا تخلو من مثل هذه التعابير التهكمية, علما بأن الكاتب الكبير كان متفرغا للكتابة الأدبية ولم يمس قلمه أي حظر حتى وفاته ولم تُوجّه إليه أية تنبيهات من أي نوع أو من أي جهة, الأمر الذي يبيّن بجلاء إن تلك الحقبة الناصرية كانت زاخرة بالعمل الفني والأدبي الذي كان في غالبه يتّسم بالجدية والغزارة ولا يخلو كذلك من انتقادات لاذعة لم يتعرّض أصحابها لأي سوء. ذلك لأن عبد الناصر ومشروعه القومي الحضاري الذي وُئد قبل أن يشتدَّ عوده, كان كأنه قادم من عالم الأساطير فيما يتعلّق بمكانته الوطنية والقومية والكاريزما الطاغية التي يتّسم بها وهيبته وطهارة يده ونزاهته وانفتاحه على الثقافة والمثقفين, ومع ذلك لا يخلو عهده دون شك من سلبيات ومثالب ليس المقام مناسباً هنا لحصرها وتبيانها.


*
نائب رئيس جامعة حكومية سابق
ورئيس جامعة أهلية سابق


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter