|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  17 / 6 / 2015                                 صباح راهي العبود                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

احفاد ميكافيلي في بغداد.......

صباح راهي العبود

الميكافيلية أصلاً هي مفهوم أو تفكير سياسي يقوم على أساس تحقيق أهداف نبيلة من خلال إتباع سلوكيات وأساليب وبغض النظر عما تحمله من أخلاقيات متدنية ,وما يرافقها من قساوة وظلم في أثناء التطبيق,وما ينتج عنها من تفكك إجتماعي .وبالنتيجة فإن هذا المفهوم يشيع ثقافة الإقصاء للآخرين وإنتهاك حقوقهم المشروعة ,فعند هؤلاء يمكن تحقيق الغاية بأية وسيلة أو أسلوب إذ أن الغاية تبرر الوسيلة.ولقد إنسحب تطبيق هذا المبدأعلى مجالات كثيرة في الحياة على فرض أن ما يهدفون إليه هي أهداف نبيلة من وجهة نظرهم في حين هي في الغالب ليست كذلك. فالمومس مثلاً تمارس العهر وتبيح جسدها للآخرين لقاء مبلغ من المال كي تصرفه على الجياع,واللص يسرق مال الناس ليتبرع به للجمعيات الخيرية ,والولايات المتحدة الأميركي تمسح مدينتي هيروشيما وناغازاكي وسكانهما من الوجود بحجة إيقاف الحرب العالمية الثانية بأسرع ما يمكن وبحجة حقن الدماء مبكراً,ويدفن آلاف الناس الأبرياء وهم أحياء وبضمنهم أطفال وشيوخ بدوافع طائفية وبحجة أنهم عملاء لدولة مجاورة, ويذبح الناس تقرباً الى الله وتنفيذاً لأوامره... وهكذا...
ولقد برزت القسوة والوحشية واضحة عند الحكام لغرض السيطرة على الحكم بعيداً عن المثل الإنسانية والقيم الأخلاقية التي أوصت بها الأديان ونادى بها المصلحون الإجتماعيون على مر الدهور, فهم يتحججون ويتذرعون بمختلف الذرائع ويعدون الأعذار لتبرير سلوكياتهم إذ لابد من وجود مبررلكل عمل أو تصرف .

بداية إنطلاق الفكر الميكافيلي تعود الى عام 1513 بعد ما إنتهى نيكولا ميكافيلي من تأليف كتابه الشهير (الأمير) والذي أهداه الى الأميرلورينزو حاكم فلورنسا في إيطاليا إذ سرد فيه أفكاره وتجاربه السياسية وضمنه مجموعة نصائح له تساعده وتمكنه من إدارة دفة الحكم .ولعل أبرزها تلك التي تخص التملص من الأخلاق والتقاليد والوعود والقيم المدنية وتوصي بترك التواضع وعدم الرضوخ للآخرين مهما علت مكانتهم وارتفع مقامهم ,لا بل عدم السماح لأي فرد منهم بتوجيه النصح والإرشاد أو إبداء النصائح الذي هو خط أحمر لا يحق لأحد من ممارسته.كما أوصاه باستغلال الدين كوسيلة لكسب ود الناس وبالأخص سذجهم وتوجيه هذا الكسب لخدمة الحكومة والمتسلطين منهم على مقدرات الناس والذين نذروا أنفسهم لخدمة الأميربغية البقاء وتمكينه من السيطرة التامة على الرعية وليس لإعلاء قيم الفضيلة .وعلى الأمير أو الحاكم إيجاد المبررات وإختيارالطرق الواجب إتباعها للتملص و التخلص من عهوده ووعوده سواء أكانت مع أشخاص أم مجاميع أم دول , خاصة عندما تشكل هذه العهود والوعود عبئاً ثقيلاً عليه, فلا داعي للإلتزام والتقيد بتنفيذها أو إحترامها إلا إذا كان ذلك يعود بالنفع والفائدة عليه.وإذا كان الوعد الذي إلتزم به يمثل ضرورة في الماضي فإن الوعد المنتهك هو ضرورة في الوقت الحاضر, فلا يحتاج الأمير الى أسباب مشروعة أو غير مشروعة لينكث بوعده. كما أوصى ميكافيلي في كتابه أن يكون الحاكم مخادعاً مرائياً بالقدر الذي يكفي لجر السذج من الرعية الى تصديقه في كل ما يقوم به أو يزمع القيام به لتحقيق أهداف معينة يروم الوصول إليها , وإن الحاكم سيجد متعة مزدوجة إذا قام بخدع مخادع خاصة,وعليه أن يكون ماكراً وغداراً متى ما إقتضى ذلك, وذا عصا غليظة وسيفاً بتاراً لتخويف وردع أو تصفية من يتعامل معهم ,وبهذه السلوكيات يتمكن الحاكم من تبرير كل أنواع القسوة والوحشية للبقاء في الحكم.

ومن خلال معرفتنا بما يفترض أن يكون عليه رجل الدين خاصة ( والمتدينين عامة ) من إيمان بقيم واضحة يحرص على إحترامها والعمل بها وعدم تجاوزها ويناضل من أجل إشاعة ما جاءت بها من تعاليم ومثل وقيم , ويسعى جاهداً من أجل نشرها وإيصالها الى كل من يتبعه ويقلده فيما يؤمن به ليكون قدوة حسنة لكل هؤلاء التابعين ولغيرهم بما يمارسه من صدق في القول والممارسة ومن أمان وصراحة,فهو لايخادع ولا يراوغ ولا يتحايل على أحد. يعطي كل ذي حق حقه ويكون أول من يضحي وآخرمن يستفيد ,وهو لايكذب ولا يخون ولا يغدر أحداً .لا يرضى لسرقة مال أوبخس حقوق ويرفض قول الزور و تزوير الشهادات الدراسية ولا يتستر على مطلوب للعدالة أو خائن لوطنه أو عميل لدولة أجنبية أومن يشيع أويكشف عن أسرارعسكرية,لا يسكت على باطل ,يقول الحق ولا يغض الطرف عن موبقة ولا يعطل أمراً فيه خدمة للناس ,يحرص على ما أؤتمن عليه من مال وأسراروإخلاص في العمل ,يسعى من أجل الخير ويرعى مصالح الفقراء والمساكين وتخفيف آلامهم ,ينشر المعرفة والعلم ولا يقدم جاهلاً على عالم ,ولا يعيق عمل الخير وإن الغاية عنده سامية نبيلة دوماً يصلها ويحققها بإتباع السبل والوسائل النظيفة الشريفة والتي يجسد من خلالها الصدق في الممارسة وسمو المباديء والمثل التي يؤمن بها. ولكي يبقى رجل الدين محترماً عليه عدم الخوض في وحل السياسة التي لا علاقة لها بالمثل والأخلاق فهي تحتمل الكذب والمراوغة والغدر أحياناً كثيرة مما لا ينسجم مع ما ينادي به من مباديء ,لذا وجب عليه ترك السياسة لأهلها وتجنب إهانة الذات الى جانب مايسببه هذا الخوض من إثارة للنعرات والتصارع غير النظيف لسيطرة طائفة على أخرى لمسك زمام الأمور.وقد حصل هذا بالفعل.وهو الذي جر العراق (شعبا وأرضاً) الى ماهوعليه من مآس وفرقة وتشظي ودمار.

فبعد الإحتلال الأجنبي للعراق فُتحت الأبواب مشرعة أمام الأحزاب الدينية ومن مختلف الملل لتمسك زمام الحكم في البلاد ,وبدلاً من أن نجد حكاماً متدينون يحملون قيماً يفترض أنهم ناضلوا من أجل تحقيقها, فوجئنا بنماذج منهم تمارس الكذب والدجل والمراوغة مبررين ممارساتهم تلك بمختلف المبررات,فهم لا يوفون بوعد ولا يلتزمون بعهد, يكرسون وجودهم في السلطة لأغراض الثراء غير المشروع ,وغدت مصالحهم فوق كل مصلحة ,يخططون للبقاء السرمدي في السلطة ما دام هذا البقاء يوفر لهم ولعوائلهم التي تسكن في فلل وقصورخارج الوطن كل وسائل الرفاه وسبل الرخاء. ولقد سعى هؤلاء الحكام لتهيئة المناخات لبقائهم في سدة الحكم من خلال العمل على توسيع الممارسات والطقوس الدينية السادية منها والمازوشية البعيدة عن الإيمان الحقيقي لمبادئ الدين فحولوا الناس البسطاء الى تابعين مستسلمين بعد أن أحاطوهم بسياج سميك من تراكمات كمية من أفكار جعلتهم أسرى لما يُملى عليهم وعدم إعطائهم فرصة لمراجعة الذات,ثم أشاعوا الإرهاب الديني والمذهبي من خلال إفتراض خطرسيطرة طائفة أخرى عليهم بعد أن روضوا البسطاء والسذج من القوم لتقبل كل ذلك من خلال تثقيف مقنن في جو مغلق لايتيح لهم فرصة للتفكيرخارجه .ونتيجة لما يحصل من تراكمات سايكولوجية لمثل هذه الأفكار تحول الولاء للوطن الى ولاء للدين والطائفة أدى الى إنصياع وخضوع البعض لدول الجواروغيرها التي تدين بذلك المذهب (إيران,السعودية,تركيا...) فضعفت قيم الوطنية وشرف الإنتماء للوطن , وتطورت الأحداث لجر بعض المخدوعين من غير المستفيدين الى الإحتراب والحشد طائفياً الى الحد الذي معه إسترخصوا دماءهم وأرواحهم دون مراجعة ما هم عليه من خطأ جارف .ولمحاولة حل المشكلة لجأوا الى مبدأ المحاصصة الطائفية المقيتة التي دقت إسفين الفرقة بين المواطنين ليتحول الأمرالى صراع على كراسي الحكم والإستحواذ على المغانم والتسابق على نهب أموال الشعب وتطمين المصالح الشخصية.فهم مختلفون طائفياً لكنهم متفقون على طريقة النهب وتوزيع الغنائم والتغاضي المتبادل عن الجرائم ,وهم وقحون ولا يستحون من التباهي بالموبقات, وإلا بماذا تفسر ظهور أحد النواب في إحدى الفضائيات العراقية ليعترف بأنه وزملائه قد قاموا بتزوير الإنتخابات,لا بل ويصف بالتفصيل ( متبجحاً ) الطريقة التي إتبعوها في ذلك,وتظهر إحداهن على شاشة التلفاز لتعترف أمام العراقيين وبلا حياء أو وجل بأنها وكل زملائها النواب مستفيدين!! .فأين الدين ومثله من ممارسات مدعيه ؟ إنهم فقط يفكرون بالبقاء في السلطة لا لخدمة يؤدونها لشعبهم بل للإستمرار بسرقة أموال المساكين ومهما كانت نوع الوسيلة المتبعة لتحقيق الغايات والأهداف, وهذا تطبيق وقح وصفيق للميكافيلية إذ جعلوا الغاية تبرر الوسيلة حتى وإن كانت تلك الوسيلة قذرة. والأنكى من كل هذا ماجرى قبيل الإنتخابات البرلمانية من توزيع لسندات تمليك أراضي (وهي مال عام) من قبل أحد قيادي كتلة رشحت للإنتخابات البرلمانية على مجاميع من البسطاء بشرط ضمان الحصول على أصوات الناس المساكين ومحاسبتهم إن نكثوا بالوعد وبذلك فقد صح القول (وهب الأمير ما لا يملك لمن لا يستحق),وقائد لكتلة برلمانية أخرى أعطى 200$ أمريكي لكل من أقسم أمامه بكتاب الله ( بعد الوضوء طبعاً ) ليمنح صوته في الإنتخابات لهذه الكتلة.أما قائد (بطل) ثالث فإتخذ منطقة اليرموك في بغداد مكاناً لتوزيع الثلاجات والطباخات وغيرها على من يتعهد بإنتخاب قائمته في واحدة من طرقه الرخيصة للحصول على أصوات جاهلة لا تعرف قيمة لصوتها على الإطلاق .فيا ترى من أين جاءوا بتلك الأموال الضخمة ؟ وما مصدر المليارات التي صرفت على الدعايات ناهيك عما يصرف من مبالغ كبيرة (بأرقام فلكية) على قنواتهم الفضائية في الوقت الذي لا تجد فيه إحدى القوائم الوطنية الشريفة المرشحة نقوداً تكفي حتى لطبع بعض الملصقات الورقية لغرض الدعاية. إن تلك التصرفات وما شاكلها تدخل ضمن مفاهيم الرشوة والإبتزازوالإنتهازية وسرقة المال العام والعمالة للأجنبي وخيانة الشعب, وإن ممارسة الإنتخابات بسلوك مثل هذه الطرق غير الشرعية هو سلوك لاينسجم مع ما يدعونه من قيم دينية وجرائم ترتكب بحق المواطنين. كما وإنهم بهذا كله يكونون قد نفذوا وصايا ميكافيلي التي أوردها في كتابه (الأمير) والتي تتعارض مع القيم الدينية والأخلاقية التي يدٌعونها زوراً وبهتاناً .

 


 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter